في مسألة الاستثناء في الإيمان
السؤال: هل معتقدُ أهلِ
السُّنَّةِ والجماعةِ هو الاستثناء في الإيمان، أم أنّهم يمنعون الاستثناءَ فيه
لكونه شكًّا في الإيمان؟ أفيدونا جزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ
لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله
وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فقول
الرجل: «أنا مؤمنٌ إن شاء الله»، هو مذهب أهلِ السُّنَّة في مسألة الاستثناء في
الإيمان، لكن باعتبار كمال الإيمان وعدم العلم بالعاقبة، لا باعتبار أصل الإيمان
أو الشكِّ فيه، ومِنْ عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة من يرى التفصيل في هذه
المسألة: فإِنْ صَدَرَ منه الاستثناء في الإيمان عن شكٍّ فيه أي: الشكّ في وجود
أصل الإيمان وهو مُطلق الإيمان، فهذا محرَّم، بل هو كُفْرٌ لِصُدُورِهِ عن شَكٍّ
مُنَافٍ للإيمان المطلوبُ فيه الجزم والقطع بحصوله، أمّا إن صدر منه الاستثناء لا
على وجه الشَكِّ، وإنّما خشية الشهادة للنفس بتحقيق الإيمان المطلق، أي: أنَّ
المستثنيَ يخاف تزكيةَ النفس باستكمال الإيمان، فهذا الاستثناء واجب تجنُّـبًا من
الوقوع في محذور تزكية النفس والشهادة لها بما يخاف أن لا يكون متحقّقًا فيه، أي:
لا يدري أهو ممّن يستحقّ حقيقة الإيمان أم لا؟ وتجديد المشيئة منه تزكية للنفس بلا
علم، ولهذا لَمَّا قيل لابن مسعود رضي الله عنه: «إنّ هذا يزعم أنّه مؤمن»، قال:
«فَسَلُوهُ أَفِي الجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ؟»، فقال الرجل: «الله أعلم»،
فقال ابن مسعود رضي الله عنه: «فهلاَّ وَكَّلْتَ الأُوْلَى كَمَا وَكَّلْتَ
الآخِرَةَ»(١). ذلك لأنّ جميع الطاعات -عند أهل
السُّنَّة- داخلة في مُسَمَّى الإيمان، وهو متضمِّنٌ لفعل الواجبات فلا يشهدون على
أنفسهم القيام بجميع الطاعات بما في ذلك الواجبات، فمن هذا المأخذ يقتضي وجوب
الاستثناء، وإنّما يكون في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، ولكن ذلك لا يمنع من
ترك الاستثناء إذا ما أريد أصل الإيمان أو مطلقه.
أمّا
إن كان يقصد بالاستثناء أنّ ما حصل له في قلبه من الإيمان هو بمشيئة الله، أو أنّه
عَلَّقه على وجه بيان التعليل، أو قصد به التبرُّك بذكر المشيئة ونحو ذلك فجائز،
وقد جاء التعليق بمشيئة الله في بعض النصوص على أمور محقّقة، لا يعتريها شكّ على
نحو قوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ﴾ [الفتح: 27]، وفي قوله
صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم في زيارة القبور: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دِيَارَ
قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ»(٢)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ
مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ
دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ -إِنْ شَاءَ
اللهُ- مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا»(٣).
هذا،
وجدير بالتَّـنْبِيه أنّ أصلَ مسألةِ الاستثناءِ أَحْدَثَهَا المرجئةُ لِيَجِدُوا
حُجَّةً على مقالتهم في الإيمان تشفع لهم صِدْقَ اعتقادهم، وَوَجْهُ ذلك أنّ الرجل
يعلم من نفسه أنّه ليس بكافر، بل يجد قلبَه مصدِّقًا بما جاء به الرسول صَلَّى
اللهُ عليه وآله وسَلَّم، فيقول: أنا مُؤْمِنٌ، فيحرم عليه الاستثناء مُطلقًا،
ليثبت لهم أنّ الإيمان هو عبارة عن التصديق القلبي فحسب(٤)، وأمّا الكلابية فقالوا بوجوب الاستثناء
مُطلقًا، وقول كلا الطائفتين خطأ سواءً القول بتحريم الاستثناء مطلقًا أو بوجوبه
مطلقًا، ومذهب الحقّ هو الوسط بلا إفراط ولا تفريط وهو مذهب السلف فأجازوا
الاستثناء باعتبار كمال الإيمان وعدم العلم بالعاقبة، ومنعوه باعتبار أصل الإيمان،
أو الشكّ فيه(٥).
والعلمُ
عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا
محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
١- أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في
كتاب «الإيمان»: (67)، والآجري في «الشريعة»: (139)، وابن بطة في «الإبانة عن شريعة
الفرقة الناجية»: (2/869).
٢- أخرجه مسلم في «الطهارة»:
(607)، وأبو داود في «الجنائز»: (3239)، والنسائي في «الطهارة»: (151)، وابن ماجه
في «الزهد»: (4448)، ومالك في «الموطأ»: (59)، وأحمد: (8214)، من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه.
٣- أخرجه مسلم في «الإيمان»:
(512)، والترمذي في «الدعوات»: (3951)، وابن ماجه في «الزهد»: (4449)، وأحمد:
(9752)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٤- مجموع الفتاوى لابن
تيمية: (7/448).
٥- انظر: تفصيل المسألة في
المصدر السابق: (7/429-460)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: (351-353).
السؤال: هل معتقدُ أهلِ
السُّنَّةِ والجماعةِ هو الاستثناء في الإيمان، أم أنّهم يمنعون الاستثناءَ فيه
لكونه شكًّا في الإيمان؟ أفيدونا جزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ
لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله
وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فقول
الرجل: «أنا مؤمنٌ إن شاء الله»، هو مذهب أهلِ السُّنَّة في مسألة الاستثناء في
الإيمان، لكن باعتبار كمال الإيمان وعدم العلم بالعاقبة، لا باعتبار أصل الإيمان
أو الشكِّ فيه، ومِنْ عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة من يرى التفصيل في هذه
المسألة: فإِنْ صَدَرَ منه الاستثناء في الإيمان عن شكٍّ فيه أي: الشكّ في وجود
أصل الإيمان وهو مُطلق الإيمان، فهذا محرَّم، بل هو كُفْرٌ لِصُدُورِهِ عن شَكٍّ
مُنَافٍ للإيمان المطلوبُ فيه الجزم والقطع بحصوله، أمّا إن صدر منه الاستثناء لا
على وجه الشَكِّ، وإنّما خشية الشهادة للنفس بتحقيق الإيمان المطلق، أي: أنَّ
المستثنيَ يخاف تزكيةَ النفس باستكمال الإيمان، فهذا الاستثناء واجب تجنُّـبًا من
الوقوع في محذور تزكية النفس والشهادة لها بما يخاف أن لا يكون متحقّقًا فيه، أي:
لا يدري أهو ممّن يستحقّ حقيقة الإيمان أم لا؟ وتجديد المشيئة منه تزكية للنفس بلا
علم، ولهذا لَمَّا قيل لابن مسعود رضي الله عنه: «إنّ هذا يزعم أنّه مؤمن»، قال:
«فَسَلُوهُ أَفِي الجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ؟»، فقال الرجل: «الله أعلم»،
فقال ابن مسعود رضي الله عنه: «فهلاَّ وَكَّلْتَ الأُوْلَى كَمَا وَكَّلْتَ
الآخِرَةَ»(١). ذلك لأنّ جميع الطاعات -عند أهل
السُّنَّة- داخلة في مُسَمَّى الإيمان، وهو متضمِّنٌ لفعل الواجبات فلا يشهدون على
أنفسهم القيام بجميع الطاعات بما في ذلك الواجبات، فمن هذا المأخذ يقتضي وجوب
الاستثناء، وإنّما يكون في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، ولكن ذلك لا يمنع من
ترك الاستثناء إذا ما أريد أصل الإيمان أو مطلقه.
أمّا
إن كان يقصد بالاستثناء أنّ ما حصل له في قلبه من الإيمان هو بمشيئة الله، أو أنّه
عَلَّقه على وجه بيان التعليل، أو قصد به التبرُّك بذكر المشيئة ونحو ذلك فجائز،
وقد جاء التعليق بمشيئة الله في بعض النصوص على أمور محقّقة، لا يعتريها شكّ على
نحو قوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ﴾ [الفتح: 27]، وفي قوله
صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم في زيارة القبور: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دِيَارَ
قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ»(٢)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ
مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ
دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ -إِنْ شَاءَ
اللهُ- مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا»(٣).
هذا،
وجدير بالتَّـنْبِيه أنّ أصلَ مسألةِ الاستثناءِ أَحْدَثَهَا المرجئةُ لِيَجِدُوا
حُجَّةً على مقالتهم في الإيمان تشفع لهم صِدْقَ اعتقادهم، وَوَجْهُ ذلك أنّ الرجل
يعلم من نفسه أنّه ليس بكافر، بل يجد قلبَه مصدِّقًا بما جاء به الرسول صَلَّى
اللهُ عليه وآله وسَلَّم، فيقول: أنا مُؤْمِنٌ، فيحرم عليه الاستثناء مُطلقًا،
ليثبت لهم أنّ الإيمان هو عبارة عن التصديق القلبي فحسب(٤)، وأمّا الكلابية فقالوا بوجوب الاستثناء
مُطلقًا، وقول كلا الطائفتين خطأ سواءً القول بتحريم الاستثناء مطلقًا أو بوجوبه
مطلقًا، ومذهب الحقّ هو الوسط بلا إفراط ولا تفريط وهو مذهب السلف فأجازوا
الاستثناء باعتبار كمال الإيمان وعدم العلم بالعاقبة، ومنعوه باعتبار أصل الإيمان،
أو الشكّ فيه(٥).
والعلمُ
عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا
محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
١- أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في
كتاب «الإيمان»: (67)، والآجري في «الشريعة»: (139)، وابن بطة في «الإبانة عن شريعة
الفرقة الناجية»: (2/869).
٢- أخرجه مسلم في «الطهارة»:
(607)، وأبو داود في «الجنائز»: (3239)، والنسائي في «الطهارة»: (151)، وابن ماجه
في «الزهد»: (4448)، ومالك في «الموطأ»: (59)، وأحمد: (8214)، من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه.
٣- أخرجه مسلم في «الإيمان»:
(512)، والترمذي في «الدعوات»: (3951)، وابن ماجه في «الزهد»: (4449)، وأحمد:
(9752)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٤- مجموع الفتاوى لابن
تيمية: (7/448).
٥- انظر: تفصيل المسألة في
المصدر السابق: (7/429-460)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: (351-353).