التذكير بفضل التوحيد يحتاجه حتى أُولي المقامات العالية في الدين، لهذا لا يستغني أحد، يقول أحد أنا تعلمتُ، درستُ التوحيد، وعرفتُ فضله، ما يحتاج أكرر هذا، ما يحتاج أعطيه الناس، ليس الأمر كذلك؛ لأنّ هذا إذا علمته، أول من سيدرك هذا الفضل أنتَ، ومن ذلك الفضل أنه يكفِّر الذنوب؛ لأنه يزيد عند العلم الاعتقاد بتكريره، كما أنَّه يُنسى بعدم تعليمه وتدريسه.[الشيخ صالح]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيّه وخليله، نشهد أنّه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى تركنا على بيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده صلى الله عليه وسلم إلا هالك.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد كُلَّما صلى عليه المصلون وكُلَّما غفل عن الصلاة عليه الغافلون، وعلى آله وصحبه من اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أنْ يجعلني وإياكم ممن إذا أُعطي شكر، وإذا اُبتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، كما أسأله سبحانه أنْ يمنّ علينا بتحقيق التوحيد، وبالعمل به، وبتكميله، وتخليصه مما يُنقص كمالَه أو يقدَح في أصله، إنّه سبحانه ولي الصالحين.
لا شك أنّ هذه الدورة والدروس والمحاضرات العلمية التي كان موضوعها ”التوحيد“ من أهمّ ما عُمِل من سلاسل المحاضرات؛ وبل هي أهمُّها؛ لما اشتملت عليه مِنْ بيان وتوضيح أصل الأصول الذي هو حق الله جل وعلا على العبيد؛ وهو توحيده سبحانه وتعالى، والإخلاص له وإسلام الوجه والعمل له سبحانه بلا شريك ولا نِدّ ولا ظهير، والله جل جلاله إنما عَمَر السموات وخلقها، وعَمَر الأرض وخلقها، ليوحّد سبحانه، خلق السموات وجعل لها عُمّارا، وخلق الأرض وجعل فيها الجن والإنس مكلَّفين، وذلك كله لتوحيده سبحانه وتعالى، قال جل وعلا ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:56-58]، وهو سبحانه مستحقٌّ من عباده أنْ يُذكر فلا ينسى، وأن يُوحّد فلا يعبد أحد سواه، وأنْ يُخلص له دين والعبادة امتثالا لقوله ﴿ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[الزمر:2-3]، وهذا هو حقه سبحانه على عباده، الذي بعث به الرسل، ومن أجله أنزل الكتب، كما قال سبحانه ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، وقال أيضا﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء:25]، وهذا التوحيد هو الذي اجتمعت عليه الرسل، وهو الإسلام الذي لا يقبل الله جل وعلا من أحد غيرَه، قال جل وعلا ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[آل عمران:19]، يعني التوحيد الخالص المبرّأ من كل شائبة شرك تقدح في خُلُوصه وإخلاصه، وقال أيضا جل وعلا ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾[آل عمران:85]، والإسلام هذا ليس خاصًّا بأمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ بل كلُّ الأمم التي بُعِثت لها الرسل، كلها مطالبة بهذا الإسلام الواحد؛ وهو الإسلام العام الذي أُمِر به جميع الخلق، قال سبحانه (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) فآدم عليه السلام كان على الإسلام، ونوح عليه السلام كان على الإسلام، وإبراهيم عليه السلام كان على الإسلام، وأبناؤه الأنبياء والرسل كانوا على الإسلام، وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام كانا على الإسلام وأمرا به ودعا إليه، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان على الإسلام الخالص وكانت شريعته أيضا هي شريعة الإسلام.
وهذا الإسلام الذي اجتمعت عليه الرسل وأُمرت به جميع الأمم هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. هذا هو الاستسلام الذي يَنفع العبد، وهذا هو الاستسلام والإسلام الذي أُمر به جميع الخلق المكلَّفين من الجن والإنس.
وموضوع هذه المحاضرة هو ”فضْلُ التوحيدِ وتكفيرُه للذّنوب“ وهذا التوحيد بُيِّن لكم كثيرٌ من مسائله فيما مرّ عليكم من المحاضرات السابقة؛ في بيان معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي بيان الشرك؛ الذي هو مضادٌّ للتوحيد؛ الشرك الأكبر، أو مضاد لكماله وهو الشرك الأصغر، وبُيّن لكم معنى توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا كلُّه بيان لتوحيد الله جل وعلا، هذا التوحيد كلُّه من أخذ به فإنّ له فضلا عظيما على أهله، التوحيد له الفضل الكبير الأكبر على أهله مِمَّن أخذ به والتزمه وحققه في الدنيا والآخرة، والنفوس مشتاقة دائما أن تسمع وأن تتعرف على فضل الشيء؛ لأنها ربما ظنَّت أنّ هذا الشيء فضله واحد غير متعدد، وإذا تعددت الفضائل تعددت أوجه الاشتياق لهذا الأمر، والعناية به والحرص عليه، وبيان ما للعباد من الفضل والأثر إذا التزموا بهذا التوحيد، لهذا جاء في ”كتاب التوحيد“ الذي هو كتاب للشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد رحمه الله تعالى، أول باب من أبوابه ”باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب“ هذا أول باب، لماذا؟ لأنّ هذا الباب إذا تبيَّن للعبد فضل التوحيد، وبيان أثر التوحيد، وبيان حسنات التوحيد، وآثار التوحيد على العباد؛ على العبد في نفسه، وعلى العباد، وعلى الناس في الدنيا والآخرة، واشتاقت النفوس وعظمت عندها الرغبة في أنْ يتعرفوا على هذا التوحيد، وأن يطلبوا علمَه، وأن يهربوا مما يضاد ذلك الذي يذهب بهذه الفضائل وهذه الآثار والحسنات.
موضوع المحاضرة كما سمعتم في العنوان ”فضْلُ التوحيد وتكفيره للذنوب“، تكفير الذنوب أحد آثار التوحيد، وأحد فضائل التوحيد، لهذا لا يُقتصر في فضله على أنّه يكفر الذنوب، فالله جل وعلا منّ على عباده؛ لأنْ أوضح لهم هذا التوحيد، وبيّن لهم أنّ أهل هذا التوحيد تكفر لهم الذنوب والسيئات، قال جل وعلا ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]، ما دون الشرك يغفره الله سبحانه وتعالى لمن شاء من عباده، وهؤلاء الذين تخلّصوا من الشرك هم أهل التوحيد، والتوحيد عنوانه البارز تحقيق الشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وثبت في صحيح مسلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال «الإسلام –يعني التوحيد- يجُبّ ما قبله، والهجرة تجُبّ ما قبلها»([1]) الإسلام لمن حققه، وأسلمه ابتغاء وجه الله جل وعلا لا نفاقا ورياء، وتبرّأ من الشرك وكفر بالطاغوت، وعلِم معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإنّ هذا الإسلام يجُبّ ما قبله، فأوّل ما يواجه العبد إذا أسلم، أنّ إسلامه يجُبّ ما سلف له من الآثام، وما سلف له من الذنوب حتى ولو كان أعظم الذنوب وهو الشرك الأكبر بالله جل وعلا، الإسلام هو أعظم وسائل التوبة، الإسلام هو أنجح وأبلغ وسائل مغفرة الذنوب لمن كان عليها، حتى الشرك الأكبر، فكيف بما دونه من الشرك الأصغر، أو عموم الذنوب والكبائر والآثام، لهذا يُدرك التوحيد أهل التوحيد بالفضل أوّل ما يعلنُ الإسلام؛ لأنه بتوحيده لله جل وعلا وبراءته من الشرك فإن هذا التوحيد والإسلام يجُبّ ما قبله مهما كان الذي قبله، ولو كان أشْرَكَ الشركَ الأكبر، أو سفك الدم، أو أخذ المال، أو انتهك العِرض، أو وقع في الموبقات والكبائر، فكل ما قبل الإسلام مغفور بالإسلام، الإسلام يجُبّ ما قبله.