سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا تفريغ لكتاب مجالس شهر رمضان لفضيلة العلامة ابن تيمية الزمان محمد ابن اعثيمين رحمه الله
عنوان الكتاب:
مجالس شهر رمضان
تأليف:
محمد بن صالح العثيمين
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
الرابعة، 1408هـ
ص -3- مجالس شهر رمضان
تأليف: محمد بن صالح بن عثيمين
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
أما بعد:
فهذه مجالس لشهر رمضان المبارك، تستوعب كثيراً من أحكام الصيام والقيام والزكاة وما يناسب المقام في هذا الشهر الفاضل، رتبتها على مجالس يومية أو ليلية، انتخبت كثيراً من خطبها من كتاب: "قرة العيون المبصرة بتلخيص كتاب التبصرة"، مع تعديل ما يحتاج إلى تعديله، وأكثرت فيها من ذكر الأحكام والآداب لحاجة الناس إلى ذلك، وسميته: "مجالس شهر رمضان"
أسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصاً لله، وأن ينفع بها، إنه جواد كريم.
ص -4- المجلس الأول: في فضل شهر رمضان
الحمد لله الذي أنشأ وبرأ، وخلق الماء والثرى، وأبدع كل شيء وذرأ، لا يغيب عن بصره صغير النمل في الليل إذا سرى، ولا يعزب عن عمله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، خلق آدم فابتلاه ثم اجتباه فتاب عليه وهدى، وبعث نوحاً فصنع الفلك بأمر الله وجرى، ونجى الخليل من النار فصار حرها برداً وسلاماً عليه فاعتبروا بما جرى، وآتى موسى تسع آياتٍ فما ادكر فرعون وما ارعوى، وأيد عيسى بآيات تبهر الورى، وأنزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم فيه البينات والهدى. أحمده على نعمه التي لا تزال تترى. وأصلي وأسلم على نبيه محمد المبعوث في أم القرى صلى الله عليه وعلى صاحبه في الغار أبي بكر بلا مرا، وعلى عمر الملهم في رأيه فهو بنور الله يرى، وعلى عثمان زوج ابنتيه ما كان حديثاً يفترى، وعلى ابن عمه عليّ؛ بحر العلوم وأسد الثرى، وعلى بقية آله وأصحابه الذين انتشر فضلهم في الورى، وسلم تسليماً:
إخواني: لقد أظلنا شهركريم، وموسم عظيم. يعظم الله فيه الأجر ويجزل المواهب، ويفتح أبواب الخير فيه لكل راغب، شهر الخيرات والبركات، شهر المنح والهبات، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان}، شهر محفوف بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، اشتهرت بفضله الأخبار، وتواترت فيه الآثار.
ففي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين". وإنما تفتح أبواب الجنة في هذا الشهر؛ لكثرة الأعمال الصالحة وترغيباً للعاملين، وتغلق أبواب
ص -5- النار؛ لقلة المعاصي من أهل الإيمان، وتصفد الشياطين فتغل فلا يخلصون إلى ما يخلصون إليه في غيره.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أُعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة من الأمم قبلها: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله كل يوم جنته، ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك. وتُصَفَّد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره. ويغفر لهم في آخر ليلة" قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر ؟. قال: "لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله".
أخواني، هذه الخصال الخمس ادّخرها الله لكم، وخصكم بها من بين سائر الأمم، ومَنَّ بها عليكم ليتمم بها عليكم النعم، وكم لله عليكم من نعم وفضائل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.
الخصلة الأولى: أن خَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
والخلُوف بضم الخاء أو فتحها: تغير رائحة الفم عند خلو المعدة من الطعام وهي رائحة مستكرهة عند الناس، لكنها عند الله أطيب من رائحة المسك؛ لأنها ناشئة عن عبادة الله وطاعته، وكل ما نشأ عن عبادته وطاعته فهو محبوب عنده سبحانه، يعوِّض عنه صاحبه ما هو خير وأفضل وأطيب، ألا ترون إلى الشهيد الذي قتل في سبيل الله يريد أن تكون كلمة الله هي العليا، يأتي يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، لونه لون الدم وريحه ريح المسك، وفي الحج يباهي الله الملائكة بأهل الموقف فيقول سبحانه: "انظروا إلى عبادي هؤلاء، جاؤوني شعثاً غبراً" رواه أحمد وابن حبان في صحيحه. وإنما كان الشّعث محبوباً إلى الله في هذا الموطن؛ لأنه ناشئ عن طاعة الله باجتناب محظورات الإحرام وترك الترفه.
الخصلة الثانية: إن الملائكة تستغفر لهم حتى يُفطروا. والملائكة عباد
ص -6- مكرمون عند الله، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، فهم جديرون بأن يستجيب الله دعاءهم للصائمين، حيث أذن لهم به، وإنما أذن الله لهم بالاستغفار للصائمين من هذه الأمة تنويها بشأنهم ورفعة لذكرهم وبياناً لفضيلة صومهم.
والاستغفار: طلب المغفرة وهي ستر الذنوب في الدنيا والآخرة والتجاوز عنها، وهي من أعلى المطالب وأسمى الغايات، فكل بني آدم خطّاؤُن مسرفون على أنفسهم، مضطرون إلى مغفرة الله عز وجل.
الخصلة الثالثة: أن الله يزين كل يوم جنته ويقول: "يُوشِكُ عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك".
فيزين تعالى جنته كل يوم تهيئة لعباده الصالحين، وترغيباً لهم في الوصول إليها، ويقول سبحانه: "يوشك عبادي الصالحون أن يُلقوا عنهم المؤونة والأذى" يعني: مؤونة الدنيا وتعبها وأذاها، ويشمروا إلى الأعمال الصالحة التي فيها سعادتهم في الدنيا والآخرة والوصول إلى دار السلام والكرامة.
الخصلة الرابعة: أن مردة الشياطين يُصفّدون بالسلاسل والأغلال، فلا يصلون إلى ما يريدون من عباد الله الصالحين من الإضلال عن الحق والتثبيط عن الخير.
وهذا من معونة الله لهم أن حبس عنهم عدوهم الذي {يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، ولذلك تجد عند الصالحين من الرغبة في الخير والعزوف عن الشر في هذا الشهر أكثر من غيره.
الخصلة الخامسة: أن الله يغفر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر ليلة من هذا الشهر إذا قاموا بما ينبغي أن يقوموا به في هذا الشهر المبارك، من الصيام والقيام تفضلاً منه سبحانه بتوفية أجورهم عند انتهاء أعمالهم، فإن العامل يوفى أجره عند انتهاء عمله.
وقد تفضل سبحانه على عباده بهذا الأجر من وجوه ثلاثة:
الأول: أنه شرع لهم من الأعمال الصالحة ما يكون سبباً لمغفرة ذنوبهم، ورفعة درجاتهم، ولولا أنه شرع ذلك ما كان لهم أن يتعبدوا لله بها، إذ العبادة لا تؤخذ إلا من وحي الله إلى رسله، ولذلك أنكر الله على من يَشْرَعُون من دونه، وجعل ذلك نوعاً من الشرك، فقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}.
ص -7- الوجه الثاني: أنه وفقهم للعمل الصالح، وقد تركه كثير من الناس، ولولا معونة الله لهم وتوفيقه ما قاموا به، فلله الفضل والمنة بذلك {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
الوجه الثالث: أنه تفضل بالأجر الكثير: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، فالفضل من الله بالعمل والثواب عليه، والحمد لله رب العالمين.
إخواني: بلوغ رمضان نعمة كبيرة على من بلغه وقام بحقه، بالرجوع إلى ربه من معصيته إلى طاعته، ومن الغفلة عنه إلى ذكره، ومن البعد عنه إلى الإنابة إليه:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبِ حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تُصَيره أيضاً شهر عصيان
واتل القران وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرْآنِ
كم كنت تعرف ممن صام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمُ حيا فما أقرب القاصي من الداني
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، ووفّقنا للتزّود من التقوى قبل النّقلة، وارزقنا اغتنام الأوقات في ذي المهلة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ص -8- المجلس الثاني: في فضل الصيام
الحمد لله اللطيف الرؤوف المنان، الغني القوي السلطان، الحليم الكريم الرحيم الرحمن، الأول فلا شيء قبله، الآخر فلا شيء بعده، الظاهر فلا شيء فوقه، الباطن فلا شيء دونه، المحيط علماً بما يكون وما كان، يعز ويذل، ويفقر ويغني، ويفعل ما يشاء بحكمته {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، أرسى الأرض بالجبال في نواحيها، وأرسل السحاب الثقال بماء يحيها، وقضى بالفناء على جميع ساكنيها ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي المحسنين بالإحسان. أحمده على الصفات الكاملة الحسان، وأشكره على نعمه السابغة وبالشكر يزيد العطاء والامتنان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجان.
صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم ما توالت الأزمان، وسلّم تسليماً.
إخواني: اعلموا أن الصوم من أفضل العبادات وأجل الطاعات، جاءت بفضله الآثار، ونقلت فيه بين الناس الأخبار.
فمن فضائل الصوم: أن الله كتبه على جميع الأمم، وفرضه عليهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، ولولا أنه عبادة عظيمة لا غنى للخلق عن التعبد بها لله وعما يترتب عليها من ثواب ما فرضه الله علىجميع الأمم.
ومن فضائل الصوم في رمضان: أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات.
ففي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" يعني: إيماناً بالله ورضاً بفرضية الصوم عليه. واحتساباً لثوابه وأجره، لم يكن
ص -9- كارهاً لفرضه ولا شاكاً في ثوابه وأجره؛ فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس، والجُمعة إلى الجُمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
ومن فضائل الصوم: أن ثوابه لا يتقيد بعدد معين، بل يعطي الصائم أجره بغير حساب.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يَصْخَب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم. والذي نفس محمد بيده لخَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" وفي رواية لمسلم: "كل عمل ابن آدم له يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي".
وهذا الحديث الجليل يدل على فضيلة الصوم من وجوه عديدة:
الأول: أن الله اختص لنفسه الصوم من بين سائر الأعمال، وذلك لشرفه عنده ومحبته له، وظهور الإخلاص له سبحانه فيه، لأنه سر بين العبد وبين ربه لا يطلع عليه إلا الله، فإن الصائم يكون في الموضع الخالي من الناس متمكناً من تناول ما حرم الله عليه بالصيام فلا يتناوله، لأنه يعلم أن له رباً يطلع عليه في خلوته، وقد حرم عليه ذلك فيتركه لله خوفاً من عقابه ورغبة في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر الله له هذا الإخلاص، واختص صيامه لنفسه من بين سائر أعماله، ولهذا قال: "يدع شهوته وطعامه من أجلي". وتظهر فائدة هذا الاختصاص يوم القيامة، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى إذا لم يبق إلا الصوم يتحمل الله عنه ما بقي من المظالم ويدخله الجنة بالصوم".
الثاني: أن الله قال في الصوم: "وأنا أجزي به" فأضاف الجزاء إلى نفسه الكريمة، لأن الأعمال الصالحة يضاعف أجرها بالعدد: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، أما الصوم فإن الله أضاف الجزاء عليه
عدل سابقا من قبل أبو عبيدة الأثري في الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 1:13 am عدل 2 مرات