محاضرة الشيخ علي الحلبي التي ألقاها في مسجد الهاشمية
خطبة الجمعة في مسجد الهاشمية11/11/2005لفضيلة الشيخعلي بن حسن بن علي بن عبد الحميدالحلبي الأثريبسم الله الرحمن الرحيمإن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن
سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.أمّا بعد:فيا أَيُّها المُؤمِنون:يَقُولُ
رَبُّنا -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز: {لإيلافِ قُريش * إيلافِهِم
رِحلةَ الشّتاءِ وَالصّيف * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البيتِ * الّذي
أطعمهُم مِن جوعٍ وَآمَنَهُم مِن خوف}.هذهِ سورةٌ كامِلَةٌ في كِتابِ اللَّهِ -تعالى-: مِن أقصرِ السُّوَرِ آياتٍ، وَمِن أواخِرِها في المُصحف ترتيباً.وهي
-عَلى وَجازَتِها- حَوَت أصولَ الحياةِ الإسلامِيَّةِ كامِلَةً، ضِمْنَ
قَواعِدِ الشّرْعِ وَضَوابِطِه، وَأُصُولِهِ المُحْكَمَةِ وَغاياتِه: مِن
وحدةِ المُسْلِمين، وَاستِقْرارِ كَلِمَتِهِم، وَعِبادَةِ رَبِّهِم،
وَسَلامَةِ أَمْنِهِم وَأمانِهِم..وَهَكذا كَلامُ اللَّهِ المُعْجِزُ -كُلُّه-: بين اعتِقادٍ يُؤَيَّد، أو مُنْكَرٍ يُرَدّ، أو قَصَصٍ يُسْرَد، أو حُكْمٍ يُورَد:فَقَوْلُهُ
-تَعالى-: (لإيلافِ قُريش) معناه -كَما قَال الإِمامُ ابنُ كَثير-:
ائتلافُهُم واجتِماعُهُم في بلدِهِم آمِنين، مُطْمَئِنِّين:والائتِلاف
وَالاجتِماع -هذا يا عباد الله- مِن أعظَمِ مَقاصِدِ الشّرعِ الحَكِيم،
وَفيهِ يقولُ اللَّهُ -تبارك تعالى-: {واعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}، وَنَبِيُّ الإسلامِ -عليه الصّلاة والسّلام-
يقول: «يَدُ اللَّهِ عَلى الجماعة»، وَيقول: «الجماعة رحمة، والفُرقة
عذاب».أَيُّها المُؤمِنون:إِنَّ هذا
الأصْلَ الأصِيلَ -وحدةً، واجتِماعاً، وائتِلافاً يغيبُ -في ظِلال مِن
العاطِفَةِ العَمْياء، والحماسَةِ الصمّاء- عن فِئامٍ مِن النّاس عادَوْا
أَنْفُسَهُم، وَجَهِلُوا أَقْدارَهُم؛ وتسربلوا لَبُوسَ الإسلام وهُم عنهُ
بَعِيدون، وتكلّموا باسمِ الشّرْعِ وهُم بِهِ جاهِلُون؛ فأفسدوا مِن حيث
توهَّمُوا أنّهم مُصْلِحُون؛ وَاللّه -عزّ وجلّ- يَقُول في كتابه -وهو
أصدق القائلين-: {قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أعمالاً الَّذينَ
ضَلَّ سَعْيُهُم فِي الحياةِ الدُّنْيا وَهُم يحسَبُونَ أَنَّهُم
يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.والاستِدلالُ بِهذهِ الآيَةِ
الكريمَةِ في هَذا السّياقِ استِدْلالٌ حَقّ؛ مبنيٌّ عَلى التأصيلِ
العِلْميّ المُحَرَّر: (العِبْرَةُ بِعُمومِ اللَّفْظ لا بِخُصُوصِ
السَّبَب).وَأمّا قولُهُ -تعالى-بَعْدُ- في السورة
نفسِها-: (لإيلافِ قُريش إيلافِهِم رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصّيف} فَفِيهِ
مَعنى الاستِمرار وَالاستِقْرار -تَواصُلاً مَيموناً، وَتَكامُلاً
مَأمُوناً-: استِمرارٌ يشملُ زمانَ الإسلامِ وَمكانَه، واستِقرارٌ يتّسِعُ
بلدَ الإِيمانِ وأهلَهُ وَسُكَّانَه.وَذاكَ الائتِلافُ
البَدَنِيّ، وَهَذا الأَمانُ الزمانيّ المكانيّ هُما -معاً- موضعُ عَجَبٍ
وَتَعَجُّبٍ؛ لِكَوْنِهِمَا واقِعَيْنِ فِي أُناسٍ كانُوا -قَبْلاً-
أذِلَّةً مُتَفَرِّقينَ قَلِيلِين، ثُمَّ صارُوا- مِن بَعْدُ- أعِزَّةً
كَثَيرينَ مُتَّحِدِين..وَما ذاكَ على هذا النَّسق إلاّ بِسَبَبِ انتِسابِهِم الحَقّ لِهَذا الدِّين، وانتِمائِهِم الصِّدق لدعوةِ الحَقِّ وَاليَقِين.فَكَانَ
البَدْءُ فِي السِّياقِ القُرآنِيّ -هذا- بِلامِ التعجُّب: {لإيلافِ
قُريش}؛ تَوْجِيهاً لِلسَّامِعين وَإرشاداً للتَّالِينَ لأَمْرٍ قَد
يَدِقُّ عَلَيْهِم فَهْمُه، أَو يَصْعُبُ عَلَيْهِم إِدْراكُهُ؛ فَكأنّه
-سبحانه- يقول: اعجبوا لأمرِ قُريش، وَأَثَرِ نِعْمَتي عليهم؛ كَيْفَ
كَانُوا، وَكَيْفَ صَارُوا..وَهَذا الأَصْلُ الثَّانِي
-أيضاً- غَدَا حالُهُ -عِند أولئِكَ الجهلة المُتَصَدِّرِين-،
الحَماسِيِّين الغَوْغائِيِّين، المُتَطَرِّفِينَ الغَالِين
-أَنْفُسِهِم-: كَحالِ ذاكَ الأَصْلِ الأَوَّلِ -تَماماً-: فَقَد صارَ
نَسْياً مَنْسِيًّا، وَأَثَراً مَاضياً مَقْضِيًّا..وَمَا
آلَ حالُ هَؤُلاءِ القَوم إلى هَذا الحَدِّ المُزْرِي -سَفَهَاً وَطَيشاً
وَبَلاءً- إلاَّ بِسَبَبِ جَهْلِهِم بِالشَّرْعِ وَبِنائِه،
وَتَنَكُّبِهِم لِطَرِيقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَعُلَمائِه، وَرَسُولُنا
-صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنّ مِن أشْراطِ السّاعَةِ أن يُلْتَمَسَ
العِلْمُ عِند الأصاغِر»؛ فَهُم أصاغِرُ فِي أَسْنانِهِم، أصاغِرُ فِي
مَعْرِفَتِهِم وَثَقافَتِهِم، ولا أقول في علمهم..كَمَا وَصَفَهُم النبِيُّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثٍ آخَرَ بأنهم: «حُدَثَاءُ الأسْنان، سُفَهاءُ الأحْلام»..وَصَدَقَ
نَبِيُّنا الكريم -عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيم-
فِي قَوْلِه: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سَنَواتٍ خَدَّاعات:
يُصَدَّقُ فِيها الكاذِب، وَيُكَذَّبُ فِيها الصَّادِق، وَيَنْطِقُ فِيها
الرُّوَيْبِضَة»، قالوا: مَن الرُّوَيْبِضَة -يا رَسُولَ اللَّه-؟! فقال
-عليه الصلاة والسلام-: «الرَّجُلُ التّافِهُ يَتَحَدَّثُ فِي أمْرِ
العامَّة».نَعَم؛ وَرَبِّ مُحَمَّد؛ إنَّ هَؤلاءِ
الجَهَلَةَ الغُلاةَ شَغَلُوا الخاصَّةَ وَالعامَّة، وَتَحَدَّثُوا فِي
أَعْظَمِ الأُمورِ الهامَّة، فِي الوَقْتِ الَّذي هُم فِيهِ فاقِدُونَ
لأدَنى أدنى أهْلِيَّةِ العِلْمِ الشرعِيّ، فَضْلاً عَن رِفْعَةِ مَكانَةِ
الإِفْتاءِ الدّينِيّ؛ الَّذي جَعَلَ اللَّهُ -تَعالى- القَوْلَ فيهِ
-بَغَيْرِ عِلْمٍ- مِن أَكْبَرِ الكَبائِر-؛ كَما قَالَ -تَعالى-: {قُلْ
إِنَّما حَرَّمَ رَبِّي الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُون}، وَقَالَ -جَلَّ فِي عُلاه، وَعَظُمَ فِي عالِي سَماه-: {وَلا
تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُم الكَذِبَ هَذا حَلالٌ وَهَذا حَرامٌ
لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّه الكَذِب}:فَفِي الآيَةِ الأولى: قَرَنَ -سُبْحانَهُ- القَوْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ: بِالشِّرْكِ بِاللَّه..وَفِي
الآيَةِ الثَّانِيَة: جَعَلَ -سُبْحانَهُ- القَوْلَ بِالتَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ -بِغَيْرِ فِقْهٍ في الدين-: افتِراءً عَلى اللَّه.....
فَأَشْئِم بِهِمَا مِن فِعْلَيْنِ قَبِيحَيْنِ خَسِيسَيْنِ؛ تَنَطَّحَ
لَهُما -بِغَيْرِ خَوْفٍ مِنَ اللَّه، وَلا حَياءٍ مِن عباد الله-
أُولَئِكَ الجَهَلَةُ المُتَصَدُّونَ المُتَصَدِّرُون -أَنْفُسُهُم-؛
فَتَكَلَّمُوا بِجَهْلِهِم الشَّدِيد فِي الدِّماء، ثُمَّ تَرْجَمُوا
كَلامَهُم الفَاسِدَ إِلى وَاقِعٍ أَفْسَد؛ فَأَوْقَعُوا فِي الأُمَّةِ
القَتْلَ، وَالبَلاءَ، وَالفَتِنَ، وَالمِحَنَ..، باسم بالجهاد، وباسم نشر
الدِّين، وباسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...بَلْ
كَانُوا بِأَفْعَالِهِم المُفْسِدَة السُّوأى -هذه- سَبَباً عَظِيماً مِن
أَسْبابِ تَسَلُّطِ أعْدَاءِ الأُمَّةِ عَلَيْها، وَاستِنْزافِهِم
مُقَدَّراتِها، وَالضَّغْطِ عَلَيْها.. فَضْلاً عَن وَصْفِهِم الإِسْلامَ
بِالإِرْهاب، وَالمُسْلِمين الصَّالحِين بِالتطَرُّف -وَهُم لا يَشْعُرون،
وَلا لِضَلالاتِهِم وَإِفْسَاداتِهِم يُقَدِّرُون!!وَهَذا -والله- أَخْطَرُ وَأَعْظَمُ مَا فِي هَذِهِ البَلِيَّة،وَشَرُّ
مَا فِي تِلْكُمُ القَضِيَّة... وَبَسَبَبِهِ نَتَكَلَّم، وَنَحْرِصُ،
وَنُبَيِّن، وَنُجادِل -وَلا نَزَالُ نُحاوِل-؛ حِرْصاً شديداً عظيماً
عَلى صُورَةِ الإِسْلامِ النقِيَّة، وَأَحْكامِهِ الجَليلةِ البَهِيَّة..أَمَّا
مَا يَفْعَلُهُ المُناوِئُون الأَغْيَار: مِن ظُلْمٍ كُبَّار: فَحُكْمُهُ
أَجْلَى مِن شَمْسِ النَّهَار، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلى الصِّغَارِ
الصَّغَار..
خطبة الجمعة في مسجد الهاشمية11/11/2005لفضيلة الشيخعلي بن حسن بن علي بن عبد الحميدالحلبي الأثريبسم الله الرحمن الرحيمإن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن
سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.أمّا بعد:فيا أَيُّها المُؤمِنون:يَقُولُ
رَبُّنا -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز: {لإيلافِ قُريش * إيلافِهِم
رِحلةَ الشّتاءِ وَالصّيف * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البيتِ * الّذي
أطعمهُم مِن جوعٍ وَآمَنَهُم مِن خوف}.هذهِ سورةٌ كامِلَةٌ في كِتابِ اللَّهِ -تعالى-: مِن أقصرِ السُّوَرِ آياتٍ، وَمِن أواخِرِها في المُصحف ترتيباً.وهي
-عَلى وَجازَتِها- حَوَت أصولَ الحياةِ الإسلامِيَّةِ كامِلَةً، ضِمْنَ
قَواعِدِ الشّرْعِ وَضَوابِطِه، وَأُصُولِهِ المُحْكَمَةِ وَغاياتِه: مِن
وحدةِ المُسْلِمين، وَاستِقْرارِ كَلِمَتِهِم، وَعِبادَةِ رَبِّهِم،
وَسَلامَةِ أَمْنِهِم وَأمانِهِم..وَهَكذا كَلامُ اللَّهِ المُعْجِزُ -كُلُّه-: بين اعتِقادٍ يُؤَيَّد، أو مُنْكَرٍ يُرَدّ، أو قَصَصٍ يُسْرَد، أو حُكْمٍ يُورَد:فَقَوْلُهُ
-تَعالى-: (لإيلافِ قُريش) معناه -كَما قَال الإِمامُ ابنُ كَثير-:
ائتلافُهُم واجتِماعُهُم في بلدِهِم آمِنين، مُطْمَئِنِّين:والائتِلاف
وَالاجتِماع -هذا يا عباد الله- مِن أعظَمِ مَقاصِدِ الشّرعِ الحَكِيم،
وَفيهِ يقولُ اللَّهُ -تبارك تعالى-: {واعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}، وَنَبِيُّ الإسلامِ -عليه الصّلاة والسّلام-
يقول: «يَدُ اللَّهِ عَلى الجماعة»، وَيقول: «الجماعة رحمة، والفُرقة
عذاب».أَيُّها المُؤمِنون:إِنَّ هذا
الأصْلَ الأصِيلَ -وحدةً، واجتِماعاً، وائتِلافاً يغيبُ -في ظِلال مِن
العاطِفَةِ العَمْياء، والحماسَةِ الصمّاء- عن فِئامٍ مِن النّاس عادَوْا
أَنْفُسَهُم، وَجَهِلُوا أَقْدارَهُم؛ وتسربلوا لَبُوسَ الإسلام وهُم عنهُ
بَعِيدون، وتكلّموا باسمِ الشّرْعِ وهُم بِهِ جاهِلُون؛ فأفسدوا مِن حيث
توهَّمُوا أنّهم مُصْلِحُون؛ وَاللّه -عزّ وجلّ- يَقُول في كتابه -وهو
أصدق القائلين-: {قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أعمالاً الَّذينَ
ضَلَّ سَعْيُهُم فِي الحياةِ الدُّنْيا وَهُم يحسَبُونَ أَنَّهُم
يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.والاستِدلالُ بِهذهِ الآيَةِ
الكريمَةِ في هَذا السّياقِ استِدْلالٌ حَقّ؛ مبنيٌّ عَلى التأصيلِ
العِلْميّ المُحَرَّر: (العِبْرَةُ بِعُمومِ اللَّفْظ لا بِخُصُوصِ
السَّبَب).وَأمّا قولُهُ -تعالى-بَعْدُ- في السورة
نفسِها-: (لإيلافِ قُريش إيلافِهِم رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصّيف} فَفِيهِ
مَعنى الاستِمرار وَالاستِقْرار -تَواصُلاً مَيموناً، وَتَكامُلاً
مَأمُوناً-: استِمرارٌ يشملُ زمانَ الإسلامِ وَمكانَه، واستِقرارٌ يتّسِعُ
بلدَ الإِيمانِ وأهلَهُ وَسُكَّانَه.وَذاكَ الائتِلافُ
البَدَنِيّ، وَهَذا الأَمانُ الزمانيّ المكانيّ هُما -معاً- موضعُ عَجَبٍ
وَتَعَجُّبٍ؛ لِكَوْنِهِمَا واقِعَيْنِ فِي أُناسٍ كانُوا -قَبْلاً-
أذِلَّةً مُتَفَرِّقينَ قَلِيلِين، ثُمَّ صارُوا- مِن بَعْدُ- أعِزَّةً
كَثَيرينَ مُتَّحِدِين..وَما ذاكَ على هذا النَّسق إلاّ بِسَبَبِ انتِسابِهِم الحَقّ لِهَذا الدِّين، وانتِمائِهِم الصِّدق لدعوةِ الحَقِّ وَاليَقِين.فَكَانَ
البَدْءُ فِي السِّياقِ القُرآنِيّ -هذا- بِلامِ التعجُّب: {لإيلافِ
قُريش}؛ تَوْجِيهاً لِلسَّامِعين وَإرشاداً للتَّالِينَ لأَمْرٍ قَد
يَدِقُّ عَلَيْهِم فَهْمُه، أَو يَصْعُبُ عَلَيْهِم إِدْراكُهُ؛ فَكأنّه
-سبحانه- يقول: اعجبوا لأمرِ قُريش، وَأَثَرِ نِعْمَتي عليهم؛ كَيْفَ
كَانُوا، وَكَيْفَ صَارُوا..وَهَذا الأَصْلُ الثَّانِي
-أيضاً- غَدَا حالُهُ -عِند أولئِكَ الجهلة المُتَصَدِّرِين-،
الحَماسِيِّين الغَوْغائِيِّين، المُتَطَرِّفِينَ الغَالِين
-أَنْفُسِهِم-: كَحالِ ذاكَ الأَصْلِ الأَوَّلِ -تَماماً-: فَقَد صارَ
نَسْياً مَنْسِيًّا، وَأَثَراً مَاضياً مَقْضِيًّا..وَمَا
آلَ حالُ هَؤُلاءِ القَوم إلى هَذا الحَدِّ المُزْرِي -سَفَهَاً وَطَيشاً
وَبَلاءً- إلاَّ بِسَبَبِ جَهْلِهِم بِالشَّرْعِ وَبِنائِه،
وَتَنَكُّبِهِم لِطَرِيقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَعُلَمائِه، وَرَسُولُنا
-صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنّ مِن أشْراطِ السّاعَةِ أن يُلْتَمَسَ
العِلْمُ عِند الأصاغِر»؛ فَهُم أصاغِرُ فِي أَسْنانِهِم، أصاغِرُ فِي
مَعْرِفَتِهِم وَثَقافَتِهِم، ولا أقول في علمهم..كَمَا وَصَفَهُم النبِيُّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثٍ آخَرَ بأنهم: «حُدَثَاءُ الأسْنان، سُفَهاءُ الأحْلام»..وَصَدَقَ
نَبِيُّنا الكريم -عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيم-
فِي قَوْلِه: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سَنَواتٍ خَدَّاعات:
يُصَدَّقُ فِيها الكاذِب، وَيُكَذَّبُ فِيها الصَّادِق، وَيَنْطِقُ فِيها
الرُّوَيْبِضَة»، قالوا: مَن الرُّوَيْبِضَة -يا رَسُولَ اللَّه-؟! فقال
-عليه الصلاة والسلام-: «الرَّجُلُ التّافِهُ يَتَحَدَّثُ فِي أمْرِ
العامَّة».نَعَم؛ وَرَبِّ مُحَمَّد؛ إنَّ هَؤلاءِ
الجَهَلَةَ الغُلاةَ شَغَلُوا الخاصَّةَ وَالعامَّة، وَتَحَدَّثُوا فِي
أَعْظَمِ الأُمورِ الهامَّة، فِي الوَقْتِ الَّذي هُم فِيهِ فاقِدُونَ
لأدَنى أدنى أهْلِيَّةِ العِلْمِ الشرعِيّ، فَضْلاً عَن رِفْعَةِ مَكانَةِ
الإِفْتاءِ الدّينِيّ؛ الَّذي جَعَلَ اللَّهُ -تَعالى- القَوْلَ فيهِ
-بَغَيْرِ عِلْمٍ- مِن أَكْبَرِ الكَبائِر-؛ كَما قَالَ -تَعالى-: {قُلْ
إِنَّما حَرَّمَ رَبِّي الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُون}، وَقَالَ -جَلَّ فِي عُلاه، وَعَظُمَ فِي عالِي سَماه-: {وَلا
تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُم الكَذِبَ هَذا حَلالٌ وَهَذا حَرامٌ
لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّه الكَذِب}:فَفِي الآيَةِ الأولى: قَرَنَ -سُبْحانَهُ- القَوْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ: بِالشِّرْكِ بِاللَّه..وَفِي
الآيَةِ الثَّانِيَة: جَعَلَ -سُبْحانَهُ- القَوْلَ بِالتَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ -بِغَيْرِ فِقْهٍ في الدين-: افتِراءً عَلى اللَّه.....
فَأَشْئِم بِهِمَا مِن فِعْلَيْنِ قَبِيحَيْنِ خَسِيسَيْنِ؛ تَنَطَّحَ
لَهُما -بِغَيْرِ خَوْفٍ مِنَ اللَّه، وَلا حَياءٍ مِن عباد الله-
أُولَئِكَ الجَهَلَةُ المُتَصَدُّونَ المُتَصَدِّرُون -أَنْفُسُهُم-؛
فَتَكَلَّمُوا بِجَهْلِهِم الشَّدِيد فِي الدِّماء، ثُمَّ تَرْجَمُوا
كَلامَهُم الفَاسِدَ إِلى وَاقِعٍ أَفْسَد؛ فَأَوْقَعُوا فِي الأُمَّةِ
القَتْلَ، وَالبَلاءَ، وَالفَتِنَ، وَالمِحَنَ..، باسم بالجهاد، وباسم نشر
الدِّين، وباسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...بَلْ
كَانُوا بِأَفْعَالِهِم المُفْسِدَة السُّوأى -هذه- سَبَباً عَظِيماً مِن
أَسْبابِ تَسَلُّطِ أعْدَاءِ الأُمَّةِ عَلَيْها، وَاستِنْزافِهِم
مُقَدَّراتِها، وَالضَّغْطِ عَلَيْها.. فَضْلاً عَن وَصْفِهِم الإِسْلامَ
بِالإِرْهاب، وَالمُسْلِمين الصَّالحِين بِالتطَرُّف -وَهُم لا يَشْعُرون،
وَلا لِضَلالاتِهِم وَإِفْسَاداتِهِم يُقَدِّرُون!!وَهَذا -والله- أَخْطَرُ وَأَعْظَمُ مَا فِي هَذِهِ البَلِيَّة،وَشَرُّ
مَا فِي تِلْكُمُ القَضِيَّة... وَبَسَبَبِهِ نَتَكَلَّم، وَنَحْرِصُ،
وَنُبَيِّن، وَنُجادِل -وَلا نَزَالُ نُحاوِل-؛ حِرْصاً شديداً عظيماً
عَلى صُورَةِ الإِسْلامِ النقِيَّة، وَأَحْكامِهِ الجَليلةِ البَهِيَّة..أَمَّا
مَا يَفْعَلُهُ المُناوِئُون الأَغْيَار: مِن ظُلْمٍ كُبَّار: فَحُكْمُهُ
أَجْلَى مِن شَمْسِ النَّهَار، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلى الصِّغَارِ
الصَّغَار..