بسـم الله الرحمن الرحيم
وصلاة وسلام على على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين
تعدد الزوجات لمعالي الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين سُئلت من قبل بعض الأخوة عن معنى قول الله تعالى: ( وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدةً ...) وسأتحدث في هذه المقالة عن المعاني الجليلة التي اشتملت عليها هذه الآية الكريمة.
فهذه الآية واحدة من بضع آيات في أول سورة النساء جاءت لحماية حقوق اليتامى ذكوراً وإناثاً.
وفرض على المجتمع القيام لهم بالعدل، والتحذير من الإخلال بذلك، والهداية إلى الوسائل التي تكْفُل العدل في اليتامى بإيفائهم حقوقهم سواء من قبل الأفراد أو المجتمع.
والنص الكريم الوارد في السؤال مؤلف كما قال الإمام القرطبي في تفسيره من جزأين؛ شرط هو: (إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى)وجوابه: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع…). وأول ما يتبادر إلى ذهن السامع والقارئ السؤال ما هي العلاقة بين الشرط والجواب؟ ما هي العلاقة بين الإقساط في اليتامى – أي العدل فيهم بإعطائهم حقوقهم - وتعدد الزوجات؟ كيف يكون تشريع تعدد الزوجات مقتضياً وموجباً للعدل في اليتامى؟ تبين لنا عند الرجوع إلى التفسير بالمأثور أن الإمام ابن جرير رحمه الله أورد في تفسير هذه الآية الكريمة وبيان سبب نزولها أربعة أقوال للسلف مختلفة، ولكن اختلافها اختلاف تنوع لا اختلاف تعارض وتضاد، وهي في هذا الاختلاف محكومة بالقاعدة المعروفة أن: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن: القول بأن آية معينة نزلت في كذا قد يعني أن هذا الوضع يشمله معنى الآية المعينة وحكمها. والمقصود(باليتامى) في الآية في أحد الأقوال (اليتيمات) وفي الأقوال الأخرى (الذكور والإناث الأيتام). وفي تفسير القرآن لابد من الحذر من التجاوز عن التفسير بالمأثور، أو ما اختاره أئمة التفسير المعروفين، ولكن ذلك لا يمنع عند تدبر القرآن من استلهام معان يمكن أن يتناولها اللفظ - من حيث اللغة - ولا تتعارض مع أحكام الشرع. ومن هذا المنطلق ربما تكون الدلالة اللفظية المجردة للنص الكريم مشيرة إلى الحكمة من تشريع تعداد الزوجات، ولا شك أن الواقع العملي يثبت وجود علاقة قوية، وأكيدة، وظاهرة بين وجود تعدد الزوجات في المجتمع؛ وضمان حقوق اليتامى بوجه عام، توضيح ذلك فيما يلي: لا يستطيع المجتمع أن يقوم بما فرضه الله عليه من الوفاء بحقوق اليتامى بإيجاد (دُور أيتام) كافيه لاستيعاب أعدادهم. أولاً: أن لدُور الأيتام سلبيات كثيرة لا يبرر التسامح تجاهها إلاّ قيام الضرورة لوجود (دُور الأيتام) وعدم البديل لها. وثانياً: لأن لليتيم حاجات تتعدى حاجة الجسم من الأكل واللباس والمأوى؛ حاجات عاطفية، ونفسية، وتربوية لا تقل في أهميتها عن الحاجات الجسمية، والواقع العملي وأحكام الشرع (الإسلامي) تظهر أن هذه الحاجات في الغالب تُلَبّى عندما تتزوج أم اليتيم؛ فيكون له أب بديل، وجوّ أسريّ بديل، وإخوة وأخوات من أمه، وتكون علاقة زوج الأم بربيبه أو ربيبته (أولاد الأم من الزوج السابق) مشابهة في الغالب لعلاقته بأولاده لصلبه، حتى أنه يحرم عليه شرعاً الزواج بربيبته كما يحرم عليه الزواج من ابنته. وقد تنبهت بعض الشعوب بفطرتها إلى هذا الأمر، فوُجد مثلاً تقليد لدى القبائل الأفغانية يلتزم فيه الأفغاني بالزواج من أرملة قريبه بعد وفاته؛ حماية للزوجة ولأولادها، سواء كان أعزباً أم متزوجاً، ولذلك كان مما يلفت النظر أثناء الحرب الأفغانية ومع وجود الأعداد الهائلة من الأيتام عدم قيام الحاجة الجدية لإنشاء دُور الأيتام. وصار همّ دُور الأيتام القليلة التي أنشأها بحماس المحسنون أن تتصيّد الأيتام تصيّداً. ولكن أمّ الأيتام في الغالب لا تتزوج إلاّ في مجتمع يكون فيه الطلب على النساء كثيراً والعرض قليلاً، وهذا الوضع لا يتحقق عادة إلاّ في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات. إن في مثل هذا المجتمع وحده تتاح فرصة الزواج لكل امرأة مهما كان لديها من موانع الرغبة فيها كزوجة؛ مثل أن تكون أرملة مصبية (أي ذات أولاد). وبالعكس فإن المجتمعات التي لا يشيع فيها نظام تعدد الزوجات تكون فيه فرصة الأرامل في الزواج محدودة ، حتى أنه مع مرور الوقت يصبح زواج الأرملة عيباً أو محرماً بحكم التقليد، كما هو الحال في القارة الهندية. معنى ما تقدم أن شيوع تعدد الزوجات في مجتمع ما يجعل الطلب على النساء في ذلك المجتمع كبيراً، فحتى الأرملة ذات الأيتام سوف تجد الرجل المناسب الذي يرغب في زواجها، فإذا تزوجت فاء ظل الأب البديل على أولادها اليتامى ونعموا بالجو الأسري، كأيّ أطفال عاديين لم يصابوا بفقد أبيهم، وبذلك يتحقق في هذا المجتمع الوفاء لليتيم بحقوقه، أو كما جاء في نص الآية الكريمة (الإقساط فيه). وما تقدم يشير إلى معنى أوسع للحكمة من تشريع تعدد الزوجات، فكما شاهدنا، فإن المجتمع الذي يشيع فيه تعدد الزوجات يعمل فيه قانون العرض والطلب وهو قانون طبيعي عمله في أي مجال آخر، فتتاح فيه الفرصة للزواج لكل امرأة، فلا يبقى فيه عوانس، ولا مطلقات، أو أرامل فقدن الأمل في الزواج بعد فقد أزواجهن، وسيعمل هذا القانون الطبيعي - ولا بد - عمله فيؤثر إيجابياً وبصورة ظاهرة على قيمة المرأة في المجتمع، وبالتالي على حريتها، واستيفائها حقوقها، وأن تؤتى ما كتب الله لها، وأن تعامل من قبل الرجل والمجتمع بالعدل، ولعل هذا ما تشير له الآية الكريمة (ذلك أدنى أن لا تعولوا)؛ إذا كان اسم الإشارة راجعاً إلى كل ما تقدمه من تشريع لتعدد الزوجات، فتعدد الزوجات – في نظر المتعمق – يحمي المرأة من الظلم وانتقاص الحق، وهذا مشاهد في الواقع العملي، فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء) حيث يشيع تعدد الزوجات تتمتع بمركز اجتماعي، وحرية، وقدرة على التصرف بقدر لا يتاح للمرأة في القارة الهندية مثلاً حيث تسود عادة وحدة الزوجة، ففي هذه المجتمعات الأخيرة تولد المرأة ومعها شعور أسرتها بأنه ولد للأسرة عبء مالي إضافي يتمثل في الثمن الباهظ لشراء زوجها عندما تبلغ سن الزواج، إذ على الأب أن يدفع (الجهيز) وتتحدد قيمة (الجهيز) في الغالب بمدى القدرة المالية للأب، أعرف أخاً من جنوب الهند كان موسراً، ولكنه انتهى مفلساً؛ بعد أن دفع (الجهيز) لتزويج بناته التسع، والمسلمون الهنود وحدهم - وبحكم تأثرهم بالعادات الهندية القديمة - توجد عندهم مشكلة تستأثر بقدر كبير من همومهم، هي مشكلة تزويج البنات الفقيرات. ومن الطبيعي أن المرأة الهندية عندما تنجح في الحصول على الزوج؛ فإنها – تحت سلطان شبح الخوف من فقده – سوف تصبر على ظُلمه، وسوف تتغاضى عن مطالبته بحقوقها قِبَله، ولن تستطيع القوانين البشرية – مهما كانت كفاءتها وفعاليتها - مقاومة عمل القوانين الطبيعية. ومن يتابع الصحف اليومية الهندية، وأخبار ما تنشره عن مآسي انتحار الزوجات، أو حرقهن من قبل أزواجهن وأسر أزواجهن؛ بسبب عجز الزوجة عن الوفاء بالتزامها بثمن زواجها (الجهيز)، سوف يرى صورة من صور الظلم الناشئ عن تدني قيمتها بتأثير القانون الطبيعي للعرض والطلب. وعلى العكس، فالمرأة الإفريقية جنوب الصحراء عندما تبلغ سن الزواج تستقبلها أبواب العش الزوجي مشرّعة، وتدخلها مرفوعة الرأس كريمة، سوف يتردد زوجها كثيرا قبل أن يقدم على ظلمها، أو انتقاص حقوقها أو حريتها، لأنه يعلم أنه إذا فارقها فلن تكون أبواب الزواج من جديد موصَدة أمامها، إن قانون العرض والطلب قد رفع قيمتها، وأعطاها القدرة على التصرف والاختيار، وسيكون زوجها أمام علة فاعلة، وسبب واقعي لمعاشرتها بالمعروف، وهذا يفسر أن نسبة الطلاق في مجتمع تعدد الزوجات أدنى منها في مجتمع وحدة الزوجة. هناك بالطبع سبب إضافي لتدني نسبة الطلاق في مجتمع تعدد الزوجات، يرجع إلى أن الرجل (وهو بحكم الطبيعة، وبصرف النظر عن جنسه، أو ثقافته، أو مكانه، أو زمانه) يميل غالباً إلى (التعدد). ولن يجد الزوج نفسه (في مجتمع التعدد) في ظروف تحمله على الطلاق، بسبب رغبته في التعدد (كما يحصل في مجتمع عدم التعدد). وإذا كان الرجل - كحقيقة واقعة - يميل غالباً إلى التعدد، فإن تشريعاً للتعدد - كالتشريع الإسلامي بقيوده وضوابطه - يضمن البديل العادل للمرأة، ولا يجعلها - كما هو الواقع في المجتمعات التي تنكر التعدد المشروع - محرومة من الحماية لحقوقها وحقوق أولادها من ثمرة التعدد، أو محتاجة لتشريع قوانين غير كاملة، وغير مضمونة النفاذ والفعالية. وبعد هذا فإن لصلة تعدد الزوجات (في الحدود وبالقيود التي يرسمها التشريع الإسلامي) بالعدل في جانب المرأة بالنسبة لمفاهيم الحضارة المعاصرة مجالاً للقول، ملخصه: أن رعاية حقوق الإنسان وحمايتها أهم أو من أهم القيم الخلقية في الحضارة المعاصرة (على الأقل نظرياً، وبصرف النظر عن التطبيق الواقعي). يشهد لذلك أنه عندما ظهر إخفاق المعيار الاقتصادي والتكنولوجي في تصنيف البلدان والدول من حيث التقدم والتخلف، جاءت النظرية الحديثة باعتماد معيار مدى رعاية الدولة لحقوق الإنسان؛ لقياس درجتها في سلّم التقدم والحضارة، ونتيجة لذلك فاعتبرت البلدان الاسكندنافية متقدمة في هذا السلّم عن البلدان الأوروبية الأخرى. وكانت فرنسا أول دولة أوروبية تصدر إعلاناً لحقوق الإنسان عام 1789، وفي دستورها عام 1946 أكدت تلك الحقوق، وأضافت إليها حقوقاً أخرى كحق العمل، وحق الانضمام إلى الاتحادات، وحق الإضراب، ولكن للمرأة حقوقاً هي أهم لديها - أو يجب أن تكون أهم لديها - من حق الأحزاب، أو الانضمام إلى الاتحادات، أو حتى العمل. وأعني بذلك حق المرأة في الأمومة، وفي الزواج، وفي أن يكون لها بيت تكون مليكته، والراعية فيه، وتؤدي فيه وظائفها الطبيعية. ووجه أهمية الأمومة للمرأة يتضح من أن علم النفس عندما دخل المعامل والمختبرات على يد علماء النفس السلوكيين ثبت أن غريزة الأمومة أقوى لدى الأنثى من غريرة الجوع ومن غريزة الجنس. أما بالنسبة لأهمية الزواج للمرأة فتظهر عندما نتذكر أن الهدف الذي رسمه القرآن الكريم للزواج أن يسكن الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل، وأن يكون بينهما المودة والرحمة،( وجعل منها زوجها ليسكن إليها )، ( جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)، ولفظ(ليسكن)،(لتسكنوا)يحمل معاني واسعة تشمل الشعور بالراحة والمتعة والأمن والسلام وما يشبه شعور الطفل عندما تحضنه أمه، وهذا اللفظ بما يحمل من معان لا مرادف له في العربية، وربما لا يوجد له مرادف في اللغات الأخرى، وإذا تحقق هذا الهدف للزواج، فإنه يكون مصدراً للسعادة لا يمكن أن يعوّض بأي أمر آخر اعتاد الناس أن يعتبروه مصدراً لها. وأما بالنسبة لأهمية وجود المكان والجو الأسري الذي تمارس فيه المرأة وظائفها التقليدية التي تتناغم مع طبيعتها ومشاعرها ومواهبها وإحساسها بالجمال، وهو ما يعطي المرأة قدراً كبيراً من الشعور بالاكتفاء الذي هو بدوره أمر ضروري للصحة النفسية وبالنسبة لأهمية ذلك للمرأة، فإن الأمر لا يحتاج إلى تدليل أو إفاضة في الإيضاح. وفي رأي أحد الخبراء؛ أن ظاهرة ظهور بعض أعراض الاختلال النفسي لدى المرأة الخليجية مثل حالات الاكتئاب والقلق والشعور بعدم الاكتفاء راجع إلى تخلي المرأة الخليجية عن ممارسة وظائفها التقليدية في البيت بإسنادها إلى الخادمة، وبذلك يظل الشعور بعدم الاكتفاء، وأن شيئاً – غير محدد – ينقصها في حياتها يلازم المرأة في تفكيرها اللاشعوري، ولا تعرف أن ما ينقصها هو حرمانها من ممارسة الوظائف التقليدية للمرأة. فإذا كانت حقوق المرأة في الأمومة، والزواج، وتمتعها بالجو الأسري الذي تمارس فيه الوظائف التقليدية للمرأة. إذا كانت هذا الحقوق بهذا الخطورة والأهمية للمرأة؛ فإن أي دولة أو مجتمع يحدد ويضيّق فرصتها في الحصول على هذه الحقوق لا يمكن أن يدعي العدل في جانب المرأة ولا العمل لصالحها وسيادتها. وقد وضح فيما سبق أن معارضة الدولة والمجتمع لتعدد الزوجات (بالحدود والضوابط التي رسمها الإسلام) يحدد حتما ويضيق بصورة جدية الفرصة أمام المرأة للحصول على تلك الحقوق، وإذا كان الأمر كما ذكر، فكيف نفسر الصورة السلبية لدى الحضارة المعاصرة لنظام تعدد الزوجات؟ للإجابة على هذا السؤال نلاحظ أمرين
وصلاة وسلام على على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين
تعدد الزوجات لمعالي الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين سُئلت من قبل بعض الأخوة عن معنى قول الله تعالى: ( وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدةً ...) وسأتحدث في هذه المقالة عن المعاني الجليلة التي اشتملت عليها هذه الآية الكريمة.
فهذه الآية واحدة من بضع آيات في أول سورة النساء جاءت لحماية حقوق اليتامى ذكوراً وإناثاً.
وفرض على المجتمع القيام لهم بالعدل، والتحذير من الإخلال بذلك، والهداية إلى الوسائل التي تكْفُل العدل في اليتامى بإيفائهم حقوقهم سواء من قبل الأفراد أو المجتمع.
والنص الكريم الوارد في السؤال مؤلف كما قال الإمام القرطبي في تفسيره من جزأين؛ شرط هو: (إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى)وجوابه: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع…). وأول ما يتبادر إلى ذهن السامع والقارئ السؤال ما هي العلاقة بين الشرط والجواب؟ ما هي العلاقة بين الإقساط في اليتامى – أي العدل فيهم بإعطائهم حقوقهم - وتعدد الزوجات؟ كيف يكون تشريع تعدد الزوجات مقتضياً وموجباً للعدل في اليتامى؟ تبين لنا عند الرجوع إلى التفسير بالمأثور أن الإمام ابن جرير رحمه الله أورد في تفسير هذه الآية الكريمة وبيان سبب نزولها أربعة أقوال للسلف مختلفة، ولكن اختلافها اختلاف تنوع لا اختلاف تعارض وتضاد، وهي في هذا الاختلاف محكومة بالقاعدة المعروفة أن: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن: القول بأن آية معينة نزلت في كذا قد يعني أن هذا الوضع يشمله معنى الآية المعينة وحكمها. والمقصود(باليتامى) في الآية في أحد الأقوال (اليتيمات) وفي الأقوال الأخرى (الذكور والإناث الأيتام). وفي تفسير القرآن لابد من الحذر من التجاوز عن التفسير بالمأثور، أو ما اختاره أئمة التفسير المعروفين، ولكن ذلك لا يمنع عند تدبر القرآن من استلهام معان يمكن أن يتناولها اللفظ - من حيث اللغة - ولا تتعارض مع أحكام الشرع. ومن هذا المنطلق ربما تكون الدلالة اللفظية المجردة للنص الكريم مشيرة إلى الحكمة من تشريع تعداد الزوجات، ولا شك أن الواقع العملي يثبت وجود علاقة قوية، وأكيدة، وظاهرة بين وجود تعدد الزوجات في المجتمع؛ وضمان حقوق اليتامى بوجه عام، توضيح ذلك فيما يلي: لا يستطيع المجتمع أن يقوم بما فرضه الله عليه من الوفاء بحقوق اليتامى بإيجاد (دُور أيتام) كافيه لاستيعاب أعدادهم. أولاً: أن لدُور الأيتام سلبيات كثيرة لا يبرر التسامح تجاهها إلاّ قيام الضرورة لوجود (دُور الأيتام) وعدم البديل لها. وثانياً: لأن لليتيم حاجات تتعدى حاجة الجسم من الأكل واللباس والمأوى؛ حاجات عاطفية، ونفسية، وتربوية لا تقل في أهميتها عن الحاجات الجسمية، والواقع العملي وأحكام الشرع (الإسلامي) تظهر أن هذه الحاجات في الغالب تُلَبّى عندما تتزوج أم اليتيم؛ فيكون له أب بديل، وجوّ أسريّ بديل، وإخوة وأخوات من أمه، وتكون علاقة زوج الأم بربيبه أو ربيبته (أولاد الأم من الزوج السابق) مشابهة في الغالب لعلاقته بأولاده لصلبه، حتى أنه يحرم عليه شرعاً الزواج بربيبته كما يحرم عليه الزواج من ابنته. وقد تنبهت بعض الشعوب بفطرتها إلى هذا الأمر، فوُجد مثلاً تقليد لدى القبائل الأفغانية يلتزم فيه الأفغاني بالزواج من أرملة قريبه بعد وفاته؛ حماية للزوجة ولأولادها، سواء كان أعزباً أم متزوجاً، ولذلك كان مما يلفت النظر أثناء الحرب الأفغانية ومع وجود الأعداد الهائلة من الأيتام عدم قيام الحاجة الجدية لإنشاء دُور الأيتام. وصار همّ دُور الأيتام القليلة التي أنشأها بحماس المحسنون أن تتصيّد الأيتام تصيّداً. ولكن أمّ الأيتام في الغالب لا تتزوج إلاّ في مجتمع يكون فيه الطلب على النساء كثيراً والعرض قليلاً، وهذا الوضع لا يتحقق عادة إلاّ في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات. إن في مثل هذا المجتمع وحده تتاح فرصة الزواج لكل امرأة مهما كان لديها من موانع الرغبة فيها كزوجة؛ مثل أن تكون أرملة مصبية (أي ذات أولاد). وبالعكس فإن المجتمعات التي لا يشيع فيها نظام تعدد الزوجات تكون فيه فرصة الأرامل في الزواج محدودة ، حتى أنه مع مرور الوقت يصبح زواج الأرملة عيباً أو محرماً بحكم التقليد، كما هو الحال في القارة الهندية. معنى ما تقدم أن شيوع تعدد الزوجات في مجتمع ما يجعل الطلب على النساء في ذلك المجتمع كبيراً، فحتى الأرملة ذات الأيتام سوف تجد الرجل المناسب الذي يرغب في زواجها، فإذا تزوجت فاء ظل الأب البديل على أولادها اليتامى ونعموا بالجو الأسري، كأيّ أطفال عاديين لم يصابوا بفقد أبيهم، وبذلك يتحقق في هذا المجتمع الوفاء لليتيم بحقوقه، أو كما جاء في نص الآية الكريمة (الإقساط فيه). وما تقدم يشير إلى معنى أوسع للحكمة من تشريع تعدد الزوجات، فكما شاهدنا، فإن المجتمع الذي يشيع فيه تعدد الزوجات يعمل فيه قانون العرض والطلب وهو قانون طبيعي عمله في أي مجال آخر، فتتاح فيه الفرصة للزواج لكل امرأة، فلا يبقى فيه عوانس، ولا مطلقات، أو أرامل فقدن الأمل في الزواج بعد فقد أزواجهن، وسيعمل هذا القانون الطبيعي - ولا بد - عمله فيؤثر إيجابياً وبصورة ظاهرة على قيمة المرأة في المجتمع، وبالتالي على حريتها، واستيفائها حقوقها، وأن تؤتى ما كتب الله لها، وأن تعامل من قبل الرجل والمجتمع بالعدل، ولعل هذا ما تشير له الآية الكريمة (ذلك أدنى أن لا تعولوا)؛ إذا كان اسم الإشارة راجعاً إلى كل ما تقدمه من تشريع لتعدد الزوجات، فتعدد الزوجات – في نظر المتعمق – يحمي المرأة من الظلم وانتقاص الحق، وهذا مشاهد في الواقع العملي، فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء) حيث يشيع تعدد الزوجات تتمتع بمركز اجتماعي، وحرية، وقدرة على التصرف بقدر لا يتاح للمرأة في القارة الهندية مثلاً حيث تسود عادة وحدة الزوجة، ففي هذه المجتمعات الأخيرة تولد المرأة ومعها شعور أسرتها بأنه ولد للأسرة عبء مالي إضافي يتمثل في الثمن الباهظ لشراء زوجها عندما تبلغ سن الزواج، إذ على الأب أن يدفع (الجهيز) وتتحدد قيمة (الجهيز) في الغالب بمدى القدرة المالية للأب، أعرف أخاً من جنوب الهند كان موسراً، ولكنه انتهى مفلساً؛ بعد أن دفع (الجهيز) لتزويج بناته التسع، والمسلمون الهنود وحدهم - وبحكم تأثرهم بالعادات الهندية القديمة - توجد عندهم مشكلة تستأثر بقدر كبير من همومهم، هي مشكلة تزويج البنات الفقيرات. ومن الطبيعي أن المرأة الهندية عندما تنجح في الحصول على الزوج؛ فإنها – تحت سلطان شبح الخوف من فقده – سوف تصبر على ظُلمه، وسوف تتغاضى عن مطالبته بحقوقها قِبَله، ولن تستطيع القوانين البشرية – مهما كانت كفاءتها وفعاليتها - مقاومة عمل القوانين الطبيعية. ومن يتابع الصحف اليومية الهندية، وأخبار ما تنشره عن مآسي انتحار الزوجات، أو حرقهن من قبل أزواجهن وأسر أزواجهن؛ بسبب عجز الزوجة عن الوفاء بالتزامها بثمن زواجها (الجهيز)، سوف يرى صورة من صور الظلم الناشئ عن تدني قيمتها بتأثير القانون الطبيعي للعرض والطلب. وعلى العكس، فالمرأة الإفريقية جنوب الصحراء عندما تبلغ سن الزواج تستقبلها أبواب العش الزوجي مشرّعة، وتدخلها مرفوعة الرأس كريمة، سوف يتردد زوجها كثيرا قبل أن يقدم على ظلمها، أو انتقاص حقوقها أو حريتها، لأنه يعلم أنه إذا فارقها فلن تكون أبواب الزواج من جديد موصَدة أمامها، إن قانون العرض والطلب قد رفع قيمتها، وأعطاها القدرة على التصرف والاختيار، وسيكون زوجها أمام علة فاعلة، وسبب واقعي لمعاشرتها بالمعروف، وهذا يفسر أن نسبة الطلاق في مجتمع تعدد الزوجات أدنى منها في مجتمع وحدة الزوجة. هناك بالطبع سبب إضافي لتدني نسبة الطلاق في مجتمع تعدد الزوجات، يرجع إلى أن الرجل (وهو بحكم الطبيعة، وبصرف النظر عن جنسه، أو ثقافته، أو مكانه، أو زمانه) يميل غالباً إلى (التعدد). ولن يجد الزوج نفسه (في مجتمع التعدد) في ظروف تحمله على الطلاق، بسبب رغبته في التعدد (كما يحصل في مجتمع عدم التعدد). وإذا كان الرجل - كحقيقة واقعة - يميل غالباً إلى التعدد، فإن تشريعاً للتعدد - كالتشريع الإسلامي بقيوده وضوابطه - يضمن البديل العادل للمرأة، ولا يجعلها - كما هو الواقع في المجتمعات التي تنكر التعدد المشروع - محرومة من الحماية لحقوقها وحقوق أولادها من ثمرة التعدد، أو محتاجة لتشريع قوانين غير كاملة، وغير مضمونة النفاذ والفعالية. وبعد هذا فإن لصلة تعدد الزوجات (في الحدود وبالقيود التي يرسمها التشريع الإسلامي) بالعدل في جانب المرأة بالنسبة لمفاهيم الحضارة المعاصرة مجالاً للقول، ملخصه: أن رعاية حقوق الإنسان وحمايتها أهم أو من أهم القيم الخلقية في الحضارة المعاصرة (على الأقل نظرياً، وبصرف النظر عن التطبيق الواقعي). يشهد لذلك أنه عندما ظهر إخفاق المعيار الاقتصادي والتكنولوجي في تصنيف البلدان والدول من حيث التقدم والتخلف، جاءت النظرية الحديثة باعتماد معيار مدى رعاية الدولة لحقوق الإنسان؛ لقياس درجتها في سلّم التقدم والحضارة، ونتيجة لذلك فاعتبرت البلدان الاسكندنافية متقدمة في هذا السلّم عن البلدان الأوروبية الأخرى. وكانت فرنسا أول دولة أوروبية تصدر إعلاناً لحقوق الإنسان عام 1789، وفي دستورها عام 1946 أكدت تلك الحقوق، وأضافت إليها حقوقاً أخرى كحق العمل، وحق الانضمام إلى الاتحادات، وحق الإضراب، ولكن للمرأة حقوقاً هي أهم لديها - أو يجب أن تكون أهم لديها - من حق الأحزاب، أو الانضمام إلى الاتحادات، أو حتى العمل. وأعني بذلك حق المرأة في الأمومة، وفي الزواج، وفي أن يكون لها بيت تكون مليكته، والراعية فيه، وتؤدي فيه وظائفها الطبيعية. ووجه أهمية الأمومة للمرأة يتضح من أن علم النفس عندما دخل المعامل والمختبرات على يد علماء النفس السلوكيين ثبت أن غريزة الأمومة أقوى لدى الأنثى من غريرة الجوع ومن غريزة الجنس. أما بالنسبة لأهمية الزواج للمرأة فتظهر عندما نتذكر أن الهدف الذي رسمه القرآن الكريم للزواج أن يسكن الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل، وأن يكون بينهما المودة والرحمة،( وجعل منها زوجها ليسكن إليها )، ( جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)، ولفظ(ليسكن)،(لتسكنوا)يحمل معاني واسعة تشمل الشعور بالراحة والمتعة والأمن والسلام وما يشبه شعور الطفل عندما تحضنه أمه، وهذا اللفظ بما يحمل من معان لا مرادف له في العربية، وربما لا يوجد له مرادف في اللغات الأخرى، وإذا تحقق هذا الهدف للزواج، فإنه يكون مصدراً للسعادة لا يمكن أن يعوّض بأي أمر آخر اعتاد الناس أن يعتبروه مصدراً لها. وأما بالنسبة لأهمية وجود المكان والجو الأسري الذي تمارس فيه المرأة وظائفها التقليدية التي تتناغم مع طبيعتها ومشاعرها ومواهبها وإحساسها بالجمال، وهو ما يعطي المرأة قدراً كبيراً من الشعور بالاكتفاء الذي هو بدوره أمر ضروري للصحة النفسية وبالنسبة لأهمية ذلك للمرأة، فإن الأمر لا يحتاج إلى تدليل أو إفاضة في الإيضاح. وفي رأي أحد الخبراء؛ أن ظاهرة ظهور بعض أعراض الاختلال النفسي لدى المرأة الخليجية مثل حالات الاكتئاب والقلق والشعور بعدم الاكتفاء راجع إلى تخلي المرأة الخليجية عن ممارسة وظائفها التقليدية في البيت بإسنادها إلى الخادمة، وبذلك يظل الشعور بعدم الاكتفاء، وأن شيئاً – غير محدد – ينقصها في حياتها يلازم المرأة في تفكيرها اللاشعوري، ولا تعرف أن ما ينقصها هو حرمانها من ممارسة الوظائف التقليدية للمرأة. فإذا كانت حقوق المرأة في الأمومة، والزواج، وتمتعها بالجو الأسري الذي تمارس فيه الوظائف التقليدية للمرأة. إذا كانت هذا الحقوق بهذا الخطورة والأهمية للمرأة؛ فإن أي دولة أو مجتمع يحدد ويضيّق فرصتها في الحصول على هذه الحقوق لا يمكن أن يدعي العدل في جانب المرأة ولا العمل لصالحها وسيادتها. وقد وضح فيما سبق أن معارضة الدولة والمجتمع لتعدد الزوجات (بالحدود والضوابط التي رسمها الإسلام) يحدد حتما ويضيق بصورة جدية الفرصة أمام المرأة للحصول على تلك الحقوق، وإذا كان الأمر كما ذكر، فكيف نفسر الصورة السلبية لدى الحضارة المعاصرة لنظام تعدد الزوجات؟ للإجابة على هذا السؤال نلاحظ أمرين