[size=21]التحذير من تحريف معنى التوحيد
محمد حاج عيسى الجزائري
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن مما هو مشهور ومعلوم عند الدعاة الإصلاحيين السلفيين أنه لابد من الاعتناء بالعقيدة لأنها هي الأساس
وأنه لا ينبغي أن يقدم شيء على التوحيد لأنه أصل الدين وغاية إرسال الرسل وخلق العالمين، وهذا القدر من الكلام متفق عليه بينهم، إلا أننا عند العمل والتطبيق نجد بعض الاختلاف بل الانحراف، ولسنا الآن بصدد نقد من جعل مادة عقيدته مجموعة من الأقيسة العقلية والآراء الكلامية لأن هؤلاء قد أخذوا حظهم من النقد، وافتضح أمرهم عند أكثر الناس والحمد لله، ولكن حديثنا عن بعض المنتسبين إلى السنة، حيث نجد منهم من يقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام؛ الربوبية والأسماء والصفات والألوهية، ثم إنه إذا تطرق إلى توحيد الربوبية أوجز الكلام وقرر أنه فطري فلا معنى لإكثار الكلام فيه، وإذا جاء إلى توحيد الأسماء والصفات تطرق إلى بعض القواعد المتعلقة بفهم الصفات ثم وسع الكلام في الرد على الفرق المنحرفة، وإذا مثل لم يجد من الصفات ما يمثل به إلا الصفات الذاتية الخبرية كالوجه واليدين ونحوها، وإذا جاء إلى القسم الثالث تجده لا يتعرض إلا للأمور الشركية المنافية لهذا التوحيد ولا يكاد يتعرض إلى غيرها.
إن هذا الأمر لو كان صادرا من هؤلاء دون تخطئة منهم لغيرهم لما كان ثمة وجه للانتقاد، ولكن عندما ينحصر نظر هؤلاء في هذه النقط والمحاور، بحيث يُخرجون كل ما لم يدخل فيها من مسمى العقيدة والتوحيد فهنا الخطأ، وفيما يأتي عرض للتصحيح وبيان لموضع الخلل.
أولا : إن التمسك بكون توحيد الربوبية توحيدا فطريا لعدم التوسع في بيان دلائله ومعانيه ليس دليلا مقبولا، لأن توحيد الألوهية أيضا فطري(1)، ولأن الفطرة انحرفت وحُرفت، ثم إن الحديث عن إثبات الخالق جل وعلا وتوحيده في ذاته وأفعاله ليس ضلالا، بل هو من مقاصد القرآن ومن عقائد الإسلام، وإنما ضلل العلماء من حصر التوحيد في معاني الربوبية، ومن اتبع في إثباته على ما حسبه دلائل معقولة وهجر دلائل القرآن والسنة.
ثانيا : إن الاقتصار على ضوابط فهم الأسماء والصفات وقواعد الرد على الطوائف لا يؤدى المعنى الكامل للإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته، هذا الإيمان الذي لا يحصل إلا بفهم معاني تلك الأسماء والصفات ومعرفة آثارها ولوازمها، ولابد لنا من شرح أهمها وأعظمها أثرا على القلوب والسلوك كالعلم والقدرة والهداية والإرادة والسمع والبصر والرحمة والحياة والغنى والرزق، وإن إخراج هؤلاء المشار إليهم التعرض لشرح هذه الصفات من مسمى التوحيد وتسميتهم لها مواعظ(على سبيل التحقير لها) خطأ جسيم، وإننا-من جهة أخرى- لا نهون من دراسة تلك الضوابط والقواعد ، لأنها بالنسبة للعلم بالأسماء والصفات، كعلم أصول الفقه بالنسبة للفقه، فإن الفقيه لا يمكن أن تكتمل أهليته من غير علم الأصول، ومن درس علم الأصول فحسب لا يستحق أن يسمى فقيها بل إنه لا يستطيع أن يعبد الله تعالى.
ثالثا : وتوحيد الألوهية فيه المعاني الإيجابية الثبوتية وفيه المعاني السلبية المنفية، وحصول الأمور الثبوتية وهي مظاهر التوحيد من العبادات الظاهرة والباطنة، لا يقل أهمية عن ترك الأمور السلبية وهي الشركيات بل هي أهم منها، لذلك ينبغي التعرض لتفاصيل العبادات في الدراسة والتعليم أكثر مما يتعرض لتفاصيل الشركيات، وأعني بالعبادات العبادات القلبية أساسا كالإخلاص والتعظيم والمحبة والخوف والرجاء والإنابة والانقياد والتوكل، وهنا أيضا يقع الخطأ عند هؤلاء المقصرين في الفهم، حيث يجعلون هذه المواضيع التي هي حق الله تعالى على العبيد مجرد مواعظ ورقائق خارجة عن مسمى التوحيد!!
والكلام نفسه يقال عمن يعد الحديث عن جزئيات الإيمان باليوم الآخر بالتفصيل؛ ابتداء من الموت وعذاب القبر إلى البعث والنشور، وأهوال القيامة والحساب والصراط والجنة ونعيمها والنار وسعيرها، يعد الحديث عن ذلك مجرد مواعظ خارجة عن مسمى العقيدة، والمتكلم فيها واعظا وقاصا لا يعتني بالعقيدة، فإن هذا من الجهل والظلم الذي ينبغي المسارعة إلى محوه قبل أن يستحكم، ورحم الله تعالى من عرف قدر نفسه فسأل وتعلم، قبل أن يحكم بل وقبل أن يتكلم(2)، نسأل الله تعالى أن ينفعنا وسائر إخواننا بما قلنا وأن يشرح صدورنا لقبول الحق والله تعالى يقول : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر ).
الهوامش :
1/ وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (2/37-38) :» وكل واحد من وحدانية الربوبية والإلهية وإن كان معلوما بالفطرة الضرورية البديهية ، وبالشرعية النبوية الإلهية ، فهو أيضا معلوم بالأمثال الضرورية ، التي هي المقاييس العقلية ، لكن المتكلمون إنما انتصبوا لإقامة المقاييس العقلية على توحيد الربوبية ، وهذا مما لم ينازع في أصله أحد من بني آدم، وإنما نازعوا في بعض تفاصيله « .
2/ قال الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة (41-42) :« وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أولى به، وأقرب من السلامة له إن شاء الله » وسكوت هؤلاء المتعالمين أسلم لهم لدينهم وللدعوة التي ينتسبون إليها[/size]
محمد حاج عيسى الجزائري
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن مما هو مشهور ومعلوم عند الدعاة الإصلاحيين السلفيين أنه لابد من الاعتناء بالعقيدة لأنها هي الأساس
وأنه لا ينبغي أن يقدم شيء على التوحيد لأنه أصل الدين وغاية إرسال الرسل وخلق العالمين، وهذا القدر من الكلام متفق عليه بينهم، إلا أننا عند العمل والتطبيق نجد بعض الاختلاف بل الانحراف، ولسنا الآن بصدد نقد من جعل مادة عقيدته مجموعة من الأقيسة العقلية والآراء الكلامية لأن هؤلاء قد أخذوا حظهم من النقد، وافتضح أمرهم عند أكثر الناس والحمد لله، ولكن حديثنا عن بعض المنتسبين إلى السنة، حيث نجد منهم من يقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام؛ الربوبية والأسماء والصفات والألوهية، ثم إنه إذا تطرق إلى توحيد الربوبية أوجز الكلام وقرر أنه فطري فلا معنى لإكثار الكلام فيه، وإذا جاء إلى توحيد الأسماء والصفات تطرق إلى بعض القواعد المتعلقة بفهم الصفات ثم وسع الكلام في الرد على الفرق المنحرفة، وإذا مثل لم يجد من الصفات ما يمثل به إلا الصفات الذاتية الخبرية كالوجه واليدين ونحوها، وإذا جاء إلى القسم الثالث تجده لا يتعرض إلا للأمور الشركية المنافية لهذا التوحيد ولا يكاد يتعرض إلى غيرها.
إن هذا الأمر لو كان صادرا من هؤلاء دون تخطئة منهم لغيرهم لما كان ثمة وجه للانتقاد، ولكن عندما ينحصر نظر هؤلاء في هذه النقط والمحاور، بحيث يُخرجون كل ما لم يدخل فيها من مسمى العقيدة والتوحيد فهنا الخطأ، وفيما يأتي عرض للتصحيح وبيان لموضع الخلل.
أولا : إن التمسك بكون توحيد الربوبية توحيدا فطريا لعدم التوسع في بيان دلائله ومعانيه ليس دليلا مقبولا، لأن توحيد الألوهية أيضا فطري(1)، ولأن الفطرة انحرفت وحُرفت، ثم إن الحديث عن إثبات الخالق جل وعلا وتوحيده في ذاته وأفعاله ليس ضلالا، بل هو من مقاصد القرآن ومن عقائد الإسلام، وإنما ضلل العلماء من حصر التوحيد في معاني الربوبية، ومن اتبع في إثباته على ما حسبه دلائل معقولة وهجر دلائل القرآن والسنة.
ثانيا : إن الاقتصار على ضوابط فهم الأسماء والصفات وقواعد الرد على الطوائف لا يؤدى المعنى الكامل للإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته، هذا الإيمان الذي لا يحصل إلا بفهم معاني تلك الأسماء والصفات ومعرفة آثارها ولوازمها، ولابد لنا من شرح أهمها وأعظمها أثرا على القلوب والسلوك كالعلم والقدرة والهداية والإرادة والسمع والبصر والرحمة والحياة والغنى والرزق، وإن إخراج هؤلاء المشار إليهم التعرض لشرح هذه الصفات من مسمى التوحيد وتسميتهم لها مواعظ(على سبيل التحقير لها) خطأ جسيم، وإننا-من جهة أخرى- لا نهون من دراسة تلك الضوابط والقواعد ، لأنها بالنسبة للعلم بالأسماء والصفات، كعلم أصول الفقه بالنسبة للفقه، فإن الفقيه لا يمكن أن تكتمل أهليته من غير علم الأصول، ومن درس علم الأصول فحسب لا يستحق أن يسمى فقيها بل إنه لا يستطيع أن يعبد الله تعالى.
ثالثا : وتوحيد الألوهية فيه المعاني الإيجابية الثبوتية وفيه المعاني السلبية المنفية، وحصول الأمور الثبوتية وهي مظاهر التوحيد من العبادات الظاهرة والباطنة، لا يقل أهمية عن ترك الأمور السلبية وهي الشركيات بل هي أهم منها، لذلك ينبغي التعرض لتفاصيل العبادات في الدراسة والتعليم أكثر مما يتعرض لتفاصيل الشركيات، وأعني بالعبادات العبادات القلبية أساسا كالإخلاص والتعظيم والمحبة والخوف والرجاء والإنابة والانقياد والتوكل، وهنا أيضا يقع الخطأ عند هؤلاء المقصرين في الفهم، حيث يجعلون هذه المواضيع التي هي حق الله تعالى على العبيد مجرد مواعظ ورقائق خارجة عن مسمى التوحيد!!
والكلام نفسه يقال عمن يعد الحديث عن جزئيات الإيمان باليوم الآخر بالتفصيل؛ ابتداء من الموت وعذاب القبر إلى البعث والنشور، وأهوال القيامة والحساب والصراط والجنة ونعيمها والنار وسعيرها، يعد الحديث عن ذلك مجرد مواعظ خارجة عن مسمى العقيدة، والمتكلم فيها واعظا وقاصا لا يعتني بالعقيدة، فإن هذا من الجهل والظلم الذي ينبغي المسارعة إلى محوه قبل أن يستحكم، ورحم الله تعالى من عرف قدر نفسه فسأل وتعلم، قبل أن يحكم بل وقبل أن يتكلم(2)، نسأل الله تعالى أن ينفعنا وسائر إخواننا بما قلنا وأن يشرح صدورنا لقبول الحق والله تعالى يقول : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر ).
الهوامش :
1/ وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (2/37-38) :» وكل واحد من وحدانية الربوبية والإلهية وإن كان معلوما بالفطرة الضرورية البديهية ، وبالشرعية النبوية الإلهية ، فهو أيضا معلوم بالأمثال الضرورية ، التي هي المقاييس العقلية ، لكن المتكلمون إنما انتصبوا لإقامة المقاييس العقلية على توحيد الربوبية ، وهذا مما لم ينازع في أصله أحد من بني آدم، وإنما نازعوا في بعض تفاصيله « .
2/ قال الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة (41-42) :« وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أولى به، وأقرب من السلامة له إن شاء الله » وسكوت هؤلاء المتعالمين أسلم لهم لدينهم وللدعوة التي ينتسبون إليها[/size]