الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ
رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين،
أمّا بعد:
فقد وردت آياتٌ مُحكَمَة واضحةُ المعنى في نفي الضلال إلاَّ بعد
البيان، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا
بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾
[التوبة: 115]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ
إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن
يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 4]، كما وردت آياتٌ أخرى
أثبتت الضلال قبل البعثة ووَصَف الله سبحانه فيها المشركين به، مثل
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً
مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ
لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]، وقوله تعالى:
﴿وَاذْكُرُوهُ
كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ﴾
[البقرة: 198].
ومعلوم أنَّ القرآن يشبه بعضه بعضًا لا اختلاف فيه، لقوله
تعالى: ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾ [الزمر: 23]، ولا يكذب بعضه بعضًا
بل يصدِّق بعضه بعضًا؛ لأنه من الله سبحانه، لقوله تعالى:
﴿وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا
كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:
«إِنَّ هَذَا القُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضهُ بَعْضًا
بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضهُ بَعْضًا، فَمَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا بِهِ وَمَا جَهِلْتُمْ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ»(١-
أخرجه أحمد في «مسنده»: (6663)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي
الله عنهما، والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (10/174)،
والألباني في «تحقيقه لشرح الطحاوية»: (200))،
فإذا ثبت علمًا أنَّ أدلة الشرع لا تتناقض في نفسها فإنها -أيضًا-
لا تتناقض مع بعضها، بل إنها متفقة لا تختلف، متلازمة لا تفترق،
فالواجب -إذن- الجمع بين أدلة الشرع ما أمكن، ويمكن التوفيق بينها
بالنظر إليها مجتمعة بعد التفريق بين نوعين من الضلال: بين الضلال
المستوجب للعقوبة، وبين الضلال الذي هو انحراف عن سُنن الهدى وعن
طريق النور والرشد، ويظهر وجه الجمع كما يلي:
• حمل الضلال المنفي في الآية المستوجب للعقوبة على العموم، وهو
شامل للأصول والفروع والكليات والجزئيات إلاَّ بعد ورود الحجّة
الرسالية، لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15]، ولقوله تعالى:
﴿لِئَلاَّ
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ
اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 165]، وقوله تعالى:
﴿وَمَا
كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا
رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ [القصص: 59]، ولقوله
تعالى: ﴿لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، فـ «لاَ
حَظْرَ وَلاَ أَمْرَ إِلاَّ بِشَرْعٍ» إذ «لاَ يَثْبُتُ حُكْمُ
الخِطَابِ إِلاَّ بَعْدَ البَلاَغِ»، و«لاَ يَقُومُ التَّكْلِيفُ
مَعَ الجَهْلِ وَعَدَمِ العِلْمِ»، وإنما يكون الضلال المستوجب
للعقوبة في الدارين هو ترك التكليف بعد البلاغ مع انتفاء المعارض
من العلم، وهو ما فسّر به الضحاك وغيره الآية المذكورة، السابقة
بقوله: «مَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَ قَوْمًا حَتَّى يُبَيِّنَ
لَهُمْ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُونَ»(٢-
«تفسير البغوي»: (2/333)).
عدل سابقا من قبل أبو حارثة الأثري الجزائري في الإثنين نوفمبر 03, 2008 6:42 pm عدل 1 مرات