ثلاثةُ فصولٍ في الفتن حَرِيَّةٌ
بالتّدبُّرِ
بالتّدبُّرِ
من أروعِ ما قرأتُ من الكتب
المتناولةِ لموضوع الفتن كتاب : "
تمييزُ
ذوي الفطنِ بين شرفِ الجهاد و سَرَف الفتنِ " لمؤلّفه البارع الشّيخ عبد الملك رمضاني
الجزائري حفظه الله تعالى ، و ممّا شدّ انتباهي و أثّر في نفسي فصلٌٌ منه وصف فيه
الشّيخُ سبعة عشرَ دواءً للفتن ، أعجبني منها ثلاثةٌ حريّة أن تُتدبّر مليًّا ، يقع
في مخالفتها من لا يعرفها ، و كثير ممّن يعرفها يغفل عنها و لايستحضرها أيّام الفتن ، فلذلك
أحببتُ نقلها ، و في هذا الكتاب الفذّ نقولٌ عن السّلف من بدائع ما عوّدنا الشّيخ
عليه بانتقائها و بثّها في مؤلّفاته النّافعة ، و الكتاب و إن كان يبحث موضوع الفتن
النّاشئة من الخوض المذموم في السّياسة و ما يترتب عنه من اختلاف أو اقتتال بين المسلمين
، إلاّ أنّ المتأمّل في تلك النّقول لا يشكّ أنّها تصلُحُ أن يستعملها
المسلم في كلّ ما يعرض له من الفتن المولِّدة للاختلاف و التفرّق
، و بعضها عصفت
بالشّباب السلفي و ذاقوا مرارتها قريبا ، حتّى صار الكثير منهم ينوي الاعتزال عن
الجماعة من شدّة غرابة ما رأى من تفرّق و اختلاف ، و تعاطي الكتابة في تلك الفتن
ممّن ليس أهلا لها ، يعتبر و لا شكّ من التحرّك أيّام الفتنة ، و هو منهيّ عنه كما
سيأتي ، فما أحوج كثيرًا منّا معشرَ من يكتب في المواقع العنكبوتيّة والمنتديات
العامّة إلى قراءة تلك الأحاديث و الآثار و تدبّرها و امتثالها ، و استحضارها قبل
أن نخوض فيما نخوض فيه من كلامٍ و أخذٍ و ردٍّ كلّما أطلّت علينا فتنة ما برأسها ؛
فتجدنا للأسف نوقدُ نارها و نسعّر لهيبها ، و نحن لا نشعر ، بل نحسب أنّنا نحسن
صنعا ، لأنّ أكثر ذلك يكون منّا بنيّة الإصلاح و تحرّي الحقّ و بيانه ، لكن كم من
مريدٍ للخير لا يصيبه .
المتناولةِ لموضوع الفتن كتاب : "
تمييزُ
ذوي الفطنِ بين شرفِ الجهاد و سَرَف الفتنِ " لمؤلّفه البارع الشّيخ عبد الملك رمضاني
الجزائري حفظه الله تعالى ، و ممّا شدّ انتباهي و أثّر في نفسي فصلٌٌ منه وصف فيه
الشّيخُ سبعة عشرَ دواءً للفتن ، أعجبني منها ثلاثةٌ حريّة أن تُتدبّر مليًّا ، يقع
في مخالفتها من لا يعرفها ، و كثير ممّن يعرفها يغفل عنها و لايستحضرها أيّام الفتن ، فلذلك
أحببتُ نقلها ، و في هذا الكتاب الفذّ نقولٌ عن السّلف من بدائع ما عوّدنا الشّيخ
عليه بانتقائها و بثّها في مؤلّفاته النّافعة ، و الكتاب و إن كان يبحث موضوع الفتن
النّاشئة من الخوض المذموم في السّياسة و ما يترتب عنه من اختلاف أو اقتتال بين المسلمين
، إلاّ أنّ المتأمّل في تلك النّقول لا يشكّ أنّها تصلُحُ أن يستعملها
المسلم في كلّ ما يعرض له من الفتن المولِّدة للاختلاف و التفرّق
، و بعضها عصفت
بالشّباب السلفي و ذاقوا مرارتها قريبا ، حتّى صار الكثير منهم ينوي الاعتزال عن
الجماعة من شدّة غرابة ما رأى من تفرّق و اختلاف ، و تعاطي الكتابة في تلك الفتن
ممّن ليس أهلا لها ، يعتبر و لا شكّ من التحرّك أيّام الفتنة ، و هو منهيّ عنه كما
سيأتي ، فما أحوج كثيرًا منّا معشرَ من يكتب في المواقع العنكبوتيّة والمنتديات
العامّة إلى قراءة تلك الأحاديث و الآثار و تدبّرها و امتثالها ، و استحضارها قبل
أن نخوض فيما نخوض فيه من كلامٍ و أخذٍ و ردٍّ كلّما أطلّت علينا فتنة ما برأسها ؛
فتجدنا للأسف نوقدُ نارها و نسعّر لهيبها ، و نحن لا نشعر ، بل نحسب أنّنا نحسن
صنعا ، لأنّ أكثر ذلك يكون منّا بنيّة الإصلاح و تحرّي الحقّ و بيانه ، لكن كم من
مريدٍ للخير لا يصيبه .
قال حفظه الله ( ص 88 )
:
:
7 - تجنّبُ الفتنة و تركُ التحرّكِ فيها
:
:
أيّام الفتنة سريعةُ الحركة ، قليلة
البركة ، أوّلها يَسُرُّ ، و وسطُها يَغُرُّ ، وآخرها
حنظلٌ مرٌّ ،
فإذا نزلت فلا يقولنّ المسلم :
أدخلُها لأصلِح ، أو لأنصُرَ المظلوم ،
أو لأخفّف من شرّها ؛ لأنّ من تعرّض للفتنة بمثل هذا لم يخرج منها سالما ، و
إن أقنعه الوسواس الخنّاس أنّ نيّته صالحة ، أو أنّ النّاس ينتظرون تحرّكه ، فعن
المقداد بن الأسود قال : أيمُ الله ! لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و
سلّم يقول : " إنّ السّعيدَ لمن جُنِّبَ الفتن ! إنّ السّعيد لمن جنّب
الفتن ! إنّ السّعيد لمن جنّب الفتن ! و لَمَن ابتُليَ فصبر فَوَاهَا !
" رواه أبو
داود ( 4263 ) و صحّحه الألبانيّ في تعليقه عليه ، قال الفيروزآبادي في " القاموس
المحيط " في معنى " فواها " : " واهًا له ، و بترك تنوينه : كلمةُ تعجّبٍ من طيبِ
كلّ شيء ، وكلمة تلهّفٍ "
.
و قد بيّن النّبي
صلّى الله عليه و آله و سلم النّاصح لأمّته السّيرة العمليّة في ذلك حتّى تُضمن لصاحبها السّلامة من شرّ الفتن ، فعن أبي هريرة رضي الله
عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلّم : "
ستكون
فتن ، القاعد فيها خيرٌ من القائم ، و القائم فيها خيرٌ من الماشي ، و الماشي فيها
خيرٌ من السّاعي ، و من يُشْرِف لها تستشرِفْهُ ، و من وجد ملجأً أو معاذًا فليعُذ
به " رواه البخاري ( 3601 ) ومسلم ( 2776 ) ،قال ابن
حجر في " الفتح " ( 13/ 31 ) شارحا قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم : " من يشرف
لها " : " أي تطلّع لها بأن يتصدّى و يتعرّض لها و لا يعرض عنها ... " ، ثمّ قال :
" قوله : ( تستشرفه ) أي تهلكه بأن يشرفَ منها على الهلاك ، يقال : استشرفت الشّيء
علوته و أشرفت عليه ، يريد من انتصب لها انتصبَت له ، و من أعرض عنها أعرضت عنه ، و
حاصله أنّ من طلع فيها بشخصه قابلته بشرّها ، ويحتمل أن يكون المراد : من خاطر فيها
بنفسه أهلكته ، ونحوه قول القائل : من غالبها غلبته "
.
و روى معمر في " جامعه /
مصنّف عبد الرّزّاق " ( 11/450 ) و من طريقه أبو نعيم في الموضع السّابق
(*) و ابن البنّاء [ في ] "
الرّسالة المغنية في السّكوت و لزوم البيوت " ( 29 ) بإسناد صحيح عن طاووس قال
: " لمّا وقعت فتنة عثمان ،
قال رجل لأهله : أوثقوني بالحديد ؛ فإنّي مجنون ، فلمّا قُتل عثمان ، قال : خلّوا
عنّي ، الحمد لله الذي شفاني من الجنون و عافاني من قتل عثمان " . و قال أبو نعيم بعده : " رواه غيره عن ابن طاووس و سمّى الرّجلَ
عامرَ بنَ ربيعة " و طاووس قد أدرك زمان عثمان كما نقل ابن أبي حاتم في المراسيل ( ص 99 )
.
و روى نعيم بن حمّاد في "
الفتن " ( 509 ) عن عبد الله بن هُبيرة قال : " من أدرك الفتنة فليكسر رجلَه ، فإن انجبرت فليكسر الأخرى
! "
و قد
كان من حزم السّلف في هذا ما جاء في " سؤالات الآجري أبا داود " ( ص 274 ) :
" أنّ الأسودَ بن سريعٍ لمّا وقعت الفتنة
بالبصرة رَكِب البحر فلا يُدرى ما خبرُه ! "
.
البركة ، أوّلها يَسُرُّ ، و وسطُها يَغُرُّ ، وآخرها
حنظلٌ مرٌّ ،
فإذا نزلت فلا يقولنّ المسلم :
أدخلُها لأصلِح ، أو لأنصُرَ المظلوم ،
أو لأخفّف من شرّها ؛ لأنّ من تعرّض للفتنة بمثل هذا لم يخرج منها سالما ، و
إن أقنعه الوسواس الخنّاس أنّ نيّته صالحة ، أو أنّ النّاس ينتظرون تحرّكه ، فعن
المقداد بن الأسود قال : أيمُ الله ! لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و
سلّم يقول : " إنّ السّعيدَ لمن جُنِّبَ الفتن ! إنّ السّعيد لمن جنّب
الفتن ! إنّ السّعيد لمن جنّب الفتن ! و لَمَن ابتُليَ فصبر فَوَاهَا !
" رواه أبو
داود ( 4263 ) و صحّحه الألبانيّ في تعليقه عليه ، قال الفيروزآبادي في " القاموس
المحيط " في معنى " فواها " : " واهًا له ، و بترك تنوينه : كلمةُ تعجّبٍ من طيبِ
كلّ شيء ، وكلمة تلهّفٍ "
.
و قد بيّن النّبي
صلّى الله عليه و آله و سلم النّاصح لأمّته السّيرة العمليّة في ذلك حتّى تُضمن لصاحبها السّلامة من شرّ الفتن ، فعن أبي هريرة رضي الله
عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلّم : "
ستكون
فتن ، القاعد فيها خيرٌ من القائم ، و القائم فيها خيرٌ من الماشي ، و الماشي فيها
خيرٌ من السّاعي ، و من يُشْرِف لها تستشرِفْهُ ، و من وجد ملجأً أو معاذًا فليعُذ
به " رواه البخاري ( 3601 ) ومسلم ( 2776 ) ،قال ابن
حجر في " الفتح " ( 13/ 31 ) شارحا قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم : " من يشرف
لها " : " أي تطلّع لها بأن يتصدّى و يتعرّض لها و لا يعرض عنها ... " ، ثمّ قال :
" قوله : ( تستشرفه ) أي تهلكه بأن يشرفَ منها على الهلاك ، يقال : استشرفت الشّيء
علوته و أشرفت عليه ، يريد من انتصب لها انتصبَت له ، و من أعرض عنها أعرضت عنه ، و
حاصله أنّ من طلع فيها بشخصه قابلته بشرّها ، ويحتمل أن يكون المراد : من خاطر فيها
بنفسه أهلكته ، ونحوه قول القائل : من غالبها غلبته "
.
و روى معمر في " جامعه /
مصنّف عبد الرّزّاق " ( 11/450 ) و من طريقه أبو نعيم في الموضع السّابق
(*) و ابن البنّاء [ في ] "
الرّسالة المغنية في السّكوت و لزوم البيوت " ( 29 ) بإسناد صحيح عن طاووس قال
: " لمّا وقعت فتنة عثمان ،
قال رجل لأهله : أوثقوني بالحديد ؛ فإنّي مجنون ، فلمّا قُتل عثمان ، قال : خلّوا
عنّي ، الحمد لله الذي شفاني من الجنون و عافاني من قتل عثمان " . و قال أبو نعيم بعده : " رواه غيره عن ابن طاووس و سمّى الرّجلَ
عامرَ بنَ ربيعة " و طاووس قد أدرك زمان عثمان كما نقل ابن أبي حاتم في المراسيل ( ص 99 )
.
و روى نعيم بن حمّاد في "
الفتن " ( 509 ) عن عبد الله بن هُبيرة قال : " من أدرك الفتنة فليكسر رجلَه ، فإن انجبرت فليكسر الأخرى
! "
و قد
كان من حزم السّلف في هذا ما جاء في " سؤالات الآجري أبا داود " ( ص 274 ) :
" أنّ الأسودَ بن سريعٍ لمّا وقعت الفتنة
بالبصرة رَكِب البحر فلا يُدرى ما خبرُه ! "
.
[size=21]ثمّ قال جزاه الله خيراً ( ص 99 ) :
11 - حفظ اللّسان في الفتنة :
للّسان عند الفتن أثر خطير في إذكاء نارها ، و تمزيق شمل
أهلها ؛ فإنّه يفري في النّاس أشدَّ من فري السّيفِ هاماتِ الرّجال ، حتّى قال ابن
عبّاس رضي الله عنهما : " إنّما الفتنة باللّسان و ليست
باليد " رواه الدّاني في " السنن الواردة في الفتن " ( 171
) ، لذلك قيل : كم إنسانٍ ، أهلكه لسان ! و ربّ حرفٍ أدّى إلى حتفٍ
!
و قد
كان الصّحابة عند الفتنة لا يحذرون شيئا أشدّ من حذرهم من لسان الخطيب المؤثّر و
سعي النّشيط المتحرّك فيها ؛ روى نعيم ابن حمّاد في " الفتن " ( 505 ) عن ابن مسعود
قال : " خير النّاس في الفتنة أهل شاءٍ سودٍ
يُرعين في شعف الجبال و مواقع القطر ، وشرّ النّاس فيها كلّ راكب موضِعٍ (1) ، و
كلّ خطيب مِصْقَعٍ " ، و هذا من رسوخه ؛ فأيّ خطيب في هذا الزّمان أمسك لسانه عند الفتن
وتجنّبها ؟! إنّهم لا يكادون يوجدون إلا كعنقاء مغرب ! بل قضت العادة أنّهم أوّل من
يحيي الفتن ؛ لأنّهم لا يفرّقون بين الجهاد والفتنة ، كما لا يفرّقون بين الأمر
بالمعروف و النّهي عن المنكر و الفتنة ، لا سيّما إذا غرّهم العامّة بوصفهم
بالخطباء المجاهدين الشّجعان ، ولذلك كان الموفّقون المخلصون يلزمون الخمول عند
حلول الفتن أو قربها ، فقد روى نعيم بن حمّاد في " الفتن " ( 729 ) عن مسلم بن حامد
الخولاني قال : " كان يقال : من أدركته الفتنة
فعليه فيها بذكرٍ خامل " ، و على هذا يفسّر قول حذيفة بن
أسيد رضي الله عنه و قد ذكر الدّجال : "أنا لغير
الدّجال أخوف عليّ و عليكم ، قال : فقلنا : ما هو يا أبا سَريحَة ؟ قال : فتن
كأنّها قطع اللّيل المظلم ، قال : فقلنا : أيّ النّاس فيها شرّ ؟ قال : كلّ خطيب
مِصْقَع ، و كلّ راكب موضِع ، قال : فقلنا : أيّ النّاس فيها خير ؟ قال : كلّ غنيّ
خفيّ ، قال : فقلت : ما أنا بالغنيّ و لا بالخفيّ ، قال : فكن كابن اللّبون لا ظهر
فيُركبَ و لا ضرعٌ فيُحلَب " أخرجه الحاكم ( 4/530 ) و قال
: " هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرّجاه " و وافقه الذهبي ، ومعناه : كن عند الفتن بعيدا فلا يستفيد منك أحد يريدها ، مَثَلك كمثَل ابن
اللّبون من الإبل ، فلا ظهره للرّاكب ينفع ، و لا الجائع بضرعه يشبع
.
و قد صرّح عبد الله بن
عكيم – و هو رحمه الله مخضرم – بأنّ ذكر مساوئ وليّ الأمر مفتاح لإراقة دمه ، فقال
: " لا أعين على دم خليفة أبدا بعد عثمان ، فقيل له :
يا أبا مَعْبَدٍ ! أَوَ أعنتَ عليه ؟ قال كنت أعدّ ذكر مساويه عونًا على
دمه " رواه ابن سعد ( 6/115 )
والفسويّ في " المعرفة و التاريخ " ( 1/213 ) بسند صحيح
.
فلينتبه لهذا الخطباء الذين ليس لهم من همّ عند الفتنة سوى استعراض
عضلاتهم أمام الجماهير التي تصفّق لشجاعتهم المصطنعة ، فإنّه ها هنا يظهر الإخلاص
لله عزّ وجلّ والغَيرة الحقيقية على حرماته و الاتّباع الصّادق للسّلف ، و من
الصّدق في الاتّباع الاستجابة لتلك النّصوص السّابقة و عدم
التعرّض لها بتفلسف يضعف العمل بها ، و كلّ فلسفة لا قيمة لها إذا أشرقت شمس
النّبوّة .
أهلها ؛ فإنّه يفري في النّاس أشدَّ من فري السّيفِ هاماتِ الرّجال ، حتّى قال ابن
عبّاس رضي الله عنهما : " إنّما الفتنة باللّسان و ليست
باليد " رواه الدّاني في " السنن الواردة في الفتن " ( 171
) ، لذلك قيل : كم إنسانٍ ، أهلكه لسان ! و ربّ حرفٍ أدّى إلى حتفٍ
!
و قد
كان الصّحابة عند الفتنة لا يحذرون شيئا أشدّ من حذرهم من لسان الخطيب المؤثّر و
سعي النّشيط المتحرّك فيها ؛ روى نعيم ابن حمّاد في " الفتن " ( 505 ) عن ابن مسعود
قال : " خير النّاس في الفتنة أهل شاءٍ سودٍ
يُرعين في شعف الجبال و مواقع القطر ، وشرّ النّاس فيها كلّ راكب موضِعٍ (1) ، و
كلّ خطيب مِصْقَعٍ " ، و هذا من رسوخه ؛ فأيّ خطيب في هذا الزّمان أمسك لسانه عند الفتن
وتجنّبها ؟! إنّهم لا يكادون يوجدون إلا كعنقاء مغرب ! بل قضت العادة أنّهم أوّل من
يحيي الفتن ؛ لأنّهم لا يفرّقون بين الجهاد والفتنة ، كما لا يفرّقون بين الأمر
بالمعروف و النّهي عن المنكر و الفتنة ، لا سيّما إذا غرّهم العامّة بوصفهم
بالخطباء المجاهدين الشّجعان ، ولذلك كان الموفّقون المخلصون يلزمون الخمول عند
حلول الفتن أو قربها ، فقد روى نعيم بن حمّاد في " الفتن " ( 729 ) عن مسلم بن حامد
الخولاني قال : " كان يقال : من أدركته الفتنة
فعليه فيها بذكرٍ خامل " ، و على هذا يفسّر قول حذيفة بن
أسيد رضي الله عنه و قد ذكر الدّجال : "أنا لغير
الدّجال أخوف عليّ و عليكم ، قال : فقلنا : ما هو يا أبا سَريحَة ؟ قال : فتن
كأنّها قطع اللّيل المظلم ، قال : فقلنا : أيّ النّاس فيها شرّ ؟ قال : كلّ خطيب
مِصْقَع ، و كلّ راكب موضِع ، قال : فقلنا : أيّ النّاس فيها خير ؟ قال : كلّ غنيّ
خفيّ ، قال : فقلت : ما أنا بالغنيّ و لا بالخفيّ ، قال : فكن كابن اللّبون لا ظهر
فيُركبَ و لا ضرعٌ فيُحلَب " أخرجه الحاكم ( 4/530 ) و قال
: " هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرّجاه " و وافقه الذهبي ، ومعناه : كن عند الفتن بعيدا فلا يستفيد منك أحد يريدها ، مَثَلك كمثَل ابن
اللّبون من الإبل ، فلا ظهره للرّاكب ينفع ، و لا الجائع بضرعه يشبع
.
و قد صرّح عبد الله بن
عكيم – و هو رحمه الله مخضرم – بأنّ ذكر مساوئ وليّ الأمر مفتاح لإراقة دمه ، فقال
: " لا أعين على دم خليفة أبدا بعد عثمان ، فقيل له :
يا أبا مَعْبَدٍ ! أَوَ أعنتَ عليه ؟ قال كنت أعدّ ذكر مساويه عونًا على
دمه " رواه ابن سعد ( 6/115 )
والفسويّ في " المعرفة و التاريخ " ( 1/213 ) بسند صحيح
.
فلينتبه لهذا الخطباء الذين ليس لهم من همّ عند الفتنة سوى استعراض
عضلاتهم أمام الجماهير التي تصفّق لشجاعتهم المصطنعة ، فإنّه ها هنا يظهر الإخلاص
لله عزّ وجلّ والغَيرة الحقيقية على حرماته و الاتّباع الصّادق للسّلف ، و من
الصّدق في الاتّباع الاستجابة لتلك النّصوص السّابقة و عدم
التعرّض لها بتفلسف يضعف العمل بها ، و كلّ فلسفة لا قيمة لها إذا أشرقت شمس
النّبوّة .