عنوان الكتاب:
رفقا أهل السنة بأهل السنة
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
مطبعة سفير، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى، 1424هـ/2003م
ص -3- رفقاً أهلَ السنَّة بأهلِ السنَّة
إعداد: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ألَّف بين قلوب المؤمنين، ورغَّبهم في الاجتماع والائتلاف، وحذَّّرهم من التفرُّق والاختلاف، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، خلق فقدَّر، وشرع فيسَّر، وكان بالمؤمنين رحيماً، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، الذي أمر بالتيسير والتبشير، فقال: "يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا"، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله المطهَّرين، وأصحابه الذين وصفهم الله بأنَّهم أشداء على الكفَّار رُحماءُ بينهم، وعلى مَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، اللَّهمَّ اهدني واهد لي واهد بي، اللَّهمَّ طهِّر من الغلِّ جناني، وسدِّد لإصابة الحقِّ لساني، اللَّهمَّ إنِّي أعوذ
ص -4- بك أن أضِلِّ أو أُضَلَّ، أو أزِلَّ أو أزَلَّ، أو أظلم أو أُظلَم، أو أجهلَ أو يُجهل عليَّ.
أمَّا بعد:
فأهل السنَّة والجماعة هم المتَّبعون لِما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونسبتهم إلى سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم التي حثَّ على التمسُّك بها بقوله: "فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليه بالنواجذ"، وحذَّر من مخالفتها بقوله: "وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة"، وقوله: "فمَن رغب عن سنَّتي فليس منِّي"، وهذا بخلاف غيرهم من أهل الأهواء والبدع، الذين سلكوا مسالكَ لم يكن عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأهل السنَّة ظهرت عقيدتهم بظهور بعثته صلى الله عليه وسلم، وأهلُ الأهواء وُلدت عقائدُهم بعد زمنه
ص -5- صلى الله عليه وسلم، منها ما كان في آخر عهد الصحابة، ومنها ما كان بعد ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ مَن عاش من أصحابه سيُدرك هذا التفرُّقَ والاختلاف، فقال: "وإنَّه مَن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً"، ثم أرشد إلى سلوك الصراط المستقيم، وهو اتِّباعُ سنَّته وسنَّة خلفائه الراشدين، وحذَّر من محدثات الأمور، وأخبر أنَّها ضلال، وليس من المعقول ولا المقبول أن يُحجب حقٌّ وهدى عن الصحابة رضي الله عنهم ويُدَّخر لأناس يجيئون بعدهم؛ فإنَّ تلك البدع المحدَثة كلّها شر، ولو كان في شيء منها خير لسبق إليه الصحابة، لكنَّها شرٌّ ابُتلي به كثير مِمَّن جاء بعدهم مِمَّن انحرفوا عمَّا كان عليه الصحابةُ رضي الله عنهم، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمَّة إلاَّ بما صلح به أوَّلها"، ولذا فإنَّ أهل السنَّة ينتسبون إلى السنَّة، وغيرهم ينتسبون
ص -6- إلى نحلهم الباطلة كالجبرية والقدرية والمرجئة والإمامية الاثني عشرية، أو إلى أسماء أشخاص معيَّنين، كالجهمية والزيدية والأشعرية والإباضية، ولا يُقال إنَّ من هذا القبيل (الوهابية)، نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإنَّ أهلَ السنَّة في زمن الشيخ محمد ـ رحمه الله ـ وبعده لا ينتسبون هذه النسبة؛ لأنَّه ـ رحمه الله ـ لم يأت بشيء جديد فيُنتسَب إليه، بل هو متَّبعٌ لِما كان عليه السلف الصالح، ومظهرٌ للسنَّة وناشرٌ لها وداع إليها، وإنَّما يُطلِق هذه النِّسبةَ الحاقدون على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ الإصلاحية للتشويش على الناس، وصرفهم عن اتِّباع الحقِّ والهدى، وأن يبقوا على ما هم عليه من البدع المحدثة المخالفة لِما كان عليه أهل السنّة والجماعة.
ص -7- قال الإمام الشاطبي في الاعتصام (1/79): "وقال عبد الرحمن بن مهدي: قد سئل مالك بن أنس عن السنة؟ قال: هي ما لا اسم له غير السنة، وتلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال ابن القيم في مدارج السالكين (3/179): "وقد سئل بعض الأئمة عن السنة؟ قال: ما لا اسم له سوى السنَّة. يعني أنَّ أهل السنَّة ليس لهم اسم يُنسبون إليه سواها".
وفي كتاب الانتقاء لابن عبد البر (ص:35): أنَّ رجلاً سأل مالكاً فقال: مَن أهل السنَّة؟ قال: "أهل السنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به؛ لا جهمي ولا قدَري ولا رافضي".
ولا شكَّ أنَّ الواجبَ على أهل السنَّة في كلِّ
ص -11- زمان ومكان التآلف والتراحم فيما بينهم، والتعاون على البرِّ والتقوى.
وإنَّ مِمَّا يؤسف له في هذا الزمان ما حصل من بعض أهل السنَّة من وحشة واختلاف، مِمَّا ترتَّب عليه انشغال بعضهم ببعض تجريحاً وتحذيراً وهجراً، وكان الواجب أن تكون جهودُهم جميعاً موجَّهةً إلى غيرهم من الكفَّار وأهل البدع المناوئين لأهل السنَّة، وأن يكونوا فيما بينهم متآلفين متراحمين، يذكِّرُ بعضهم بعضاً برفق ولين.
وقد رأيت كتابة كلمات؛ نصيحةً لهؤلاء جميعاً، سائلاً الله عزَّ وجلَّ أن ينفع بهذه الكلمات، إن أريد إلاَّ الإصلاحَ ما استطعت، وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكَّلت وإليه أنيب، وقد سمَّيت هذه النصيحة"رفقاً أهل السنَّة بأهل السنَّة".
ص -12- وأسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وأن يُصلح ذات بينهم وأن يؤلِّف بين قلوبهم وأن يهديهم سُبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور، إنَّه سميع مجيب.
ص -10- نعمة النطق والبيان
نعمُ الله على عباده لا تُعدُّ ولا تُحصى، ومن أعظم هذه النِّعم نعمة النطق التي يُبين بها الإنسانُ عن مراده، ويقول القولَ السديد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومَن فَقَدها لم تحصل له هذه الأمور، ولا يُمكنه التفاهم مع غيره إلاَّ بالإشارة أو الكتابة إن كان كاتباً، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقد قيل في تفسيره: إنَّه مثل ضربه الله لنفسه وللوثن، وقيل: إنَّه مثل للكافر والمؤمن، قال القرطبي (9/149): "روي عن ابن عباس وهو حسن؛ لأنَّه يعمُّ"، وهو واضحٌ في نقصان الرقيق
ص -11- الأبكم الذي لا يُفيد غيرَه ولا يستفيد منه مولاه أينما وجَّهه.
وقال الله عزَّ وجلَّ: { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}، فقد أقسم الله بنفسه على تحقق البعث والجزاء على الأعمال، كما أنَّ النطقَ حاصلٌ واقعٌ من المخاطَبين، وفي ذلك تنويه بنعمة النطق.
وقال سبحانه:
{خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وفسَّر الحسن البيانَ بالنطق، وفي ذلك تنويهٌ بنعمة النطق التي يحصل بها إبانة الإنسان عمَّا يريده.
وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} أي يُبصر بهما،{وَلِسَاناً}.أي.ينطق به فيعبِّر عمَّا في ضميره،
ص -12- {وَشَفَتَيْنِ} يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالاً لوجهه وفمه".
ومن المعلوم أنَّ هذه النعمة إنَّما تكون نعمة حقًّا إذا استُعمل النطق بما هو خير، أمَّا إذا استُعمل بشرٍّ فهو وبالٌ على صاحبه، ويكون مَن فقد هذه النعمة أحسنَ حالاً منه
ص -13- حفظ اللسان من الكلام إلاَّ في خير
قال الله عزَّ وجلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} وقال عزَّ وجلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
ص -14- وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}
وفي صحيح مسلم (2589) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلم، قال: ذكرُك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لَم يكن فيه فقد بهتَّه".
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً؛ يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تتفرَّقوا، ويكره لكم قيل وقال،
ص -15- وكثرة السؤال، وإضاعة المال" أخرجه مسلم (1715)، وجاءت هذه الثلاثة المكروهة في حديث المغيرة عند البخاري (2408) ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنَّى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه" رواه البخاري (6612)، ومسلم (2657)، واللفظ لمسلم.
وروى البخاري في صحيحه (10) عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمُ مَن سلم المسلمون من لسانه ويده"، ورواه مسلم في صحيحه (64) ولفظه: أنَّ رجلاً
ص -16- سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ المسلمين خيرٌ؟ قال: "مَن سلم المسلمون من لسانه ويده".
وروى مسلمٌ أيضاً من حديث جابر (65) بلفظ حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري.
قال الحافظ في شرح الحديث: "والحديث عامٌّ بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأنَّ اللسانَ يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم! يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإنَّ أثرها في ذلك لعظيم".
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابـتِـي بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتـابُـها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
ص -17- وروى البخاري في صحيحه (6474) عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن يضمن لي ما بين لحْيَيْه وما بين رجليه أضمن له الجنَّة"، المراد بما بين اللّحْيَيْن والرِّجْلَين اللسانُ والفرْجُ.
وروى البخاري في صحيحه (6475) ومسلم في صحيحه (74) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" الحديث.
قال النووي في شرح الأربعين في شرح هذا الحديث: "قال الشافعي: معنى الحديث إذا أراد أن يتكلَّم فليُفكِّر، فإن ظهر أنَّه لا ضرر عليه تكلَّم، وإن ظهر أنَّ فيه ضرراً وشكَّ فيه أمسك"، ونقل عن بعضهم أنَّه قال: "لو كنتم تشترون الكاغَد للحفظة لسكتُّم عن كثير من الكلام".
ص -18- قال الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه روضةُ العقلاء ونزهة الفضلاء (ص:45): "الواجبُ على العاقل أن يلزم الصمتَ إلى أن يلزمه التكلُّمُ، فما أكثرَ مَن ندم إذا نطق، وأقلَّ من يندم إذا سكت، وأطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً من ابتُلي بلسانٍ مطلقٍ، وفؤادٍ مطبقٍ".
وقال أيضاً (ص:47): "الواجبُ على العاقل أن يُنصف أذنيه من فيه، ويعلم أنَّه إنَّما جُعلت له أذنان وفم واحدٌ ليسمع أكثر مِمَّا يقول؛ لأنَّه إذا قال ربَّما ندم، وإن لَم يقل لَم يندم، وهو على ردِّ ما لَم يقل أقدر منه على ردِّ ما قال، والكلمةُ إذا تكلَّم بها ملكَتْه، وإن لَم يتكلَّم بها ملكها".
وقال أيضاً في (ص:49): "لسانُ العاقل يكون وراء قلبه، فإذا أراد القولَ رجع إلى القلب، فإن كان له قال، وإلاَّ فلا، والجاهلُ قلبُه في طرف
ص -19- لسانه، ما أتى على لسانه تكلَّم به، وما عقل دينَه من لَم يحفظ لسانه".
وروى البخاري في صحيحه (6477) ومسلم في صحيحه (2988)، واللفظُ لمسلم عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن ما فيها، يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب".
وفي آخر حديث وصيّة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ أخرجه الترمذي (2616) وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، قال صلى الله عليه وسلم: "وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخِرهم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم"، قاله جواباً لقول معاذ رضي الله عنه: "يا نبيَّ الله! وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟".
قال الحافظ ابن رجب في شرحه من كتابه جامع العلوم والحكم (2/147): "والمرادُ بحصائد
ص -20- الألسنة: جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته؛ فإنَّ الإنسانَ يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيِّئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمَن زرع خيراً مِن قولٍ أو عملٍ حَصَد الكرامة، ومن زرع شراًّ من قولٍ أو عملٍ حصد غداً الندامة".
وقال (2/146): "هذا يدلُّ على أنَّ كفَّ اللسان وضبطَه وحبسَه هو أصل الخير كلِّه، وأنَّ مَن ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه".
ونقل (2/149) عن يونس بن عُبيد أنَّه قال: "ما رأيت أحداً لسانه منه على بال إلاَّ رأيت ذلك صلاحاً في سائر عمله"، وعن يحيى بن أبي كثير أنَّه قال: "ما صلح منطقُ رجل إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطقُ رجل قطُّ إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله".
وروى مسلم في صحيحه (2581) عن أبي
ص -21- هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون مَن المُفلِس؟ قالوا: المُفلِسُ فينا مَن لا دِرهم له ولا متاع، فقال: إنَّ المفلسَ من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيَتْ حسناتُه قَبْل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثمَّ طُرح في النار".
وروى مسلم في صحيحه (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثاً طويلاً جاء في آخره: "بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ، دمُه ومالُه وعرضُه".
وروى البخاري في صحيحه (1739) ومسلم في صحيحه ـ واللفظُ للبخاري ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ
ص -22- قالوا: بلدٌ حرامٌ، قال: "فأيُّ شهرٍ هذا؟ قالوا: شهرٌ حرامٌ، قال: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومِكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مراراً، ثم رفع رأسَه فقال: اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: فوالَّذي نفسي بيده! إنَّها لوصيَّتُه إلى أمَّته، فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض".
وروى مسلم في صحيحه (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن دعا إلى هُدى كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص
ص -23- ذلك من آثامهم شيئاً".
قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (1/65) تعليقاً على حديث "إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلاَّ من إحدى ثلاث..." الحديث، قال: "وناسخ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لهذا الحديث وأمثاله، وناسخ غير النافع مِمَّا يوجب الإثمَ، عليه وزره ووزر مَن قَرَأَه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لِمَا تقدم من الأحاديث (مَن سنَّ سُنَّةً حسنة أو سيِّئة)، والله أعلم".
وروى البخاري في صحيحه (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ قال: مَن عادَى لِي وَلِياًّ فقد آذنتُه بالحرب" الحديث.
رفقا أهل السنة بأهل السنة
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
مطبعة سفير، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى، 1424هـ/2003م
ص -3- رفقاً أهلَ السنَّة بأهلِ السنَّة
إعداد: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ألَّف بين قلوب المؤمنين، ورغَّبهم في الاجتماع والائتلاف، وحذَّّرهم من التفرُّق والاختلاف، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، خلق فقدَّر، وشرع فيسَّر، وكان بالمؤمنين رحيماً، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، الذي أمر بالتيسير والتبشير، فقال: "يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا"، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله المطهَّرين، وأصحابه الذين وصفهم الله بأنَّهم أشداء على الكفَّار رُحماءُ بينهم، وعلى مَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، اللَّهمَّ اهدني واهد لي واهد بي، اللَّهمَّ طهِّر من الغلِّ جناني، وسدِّد لإصابة الحقِّ لساني، اللَّهمَّ إنِّي أعوذ
ص -4- بك أن أضِلِّ أو أُضَلَّ، أو أزِلَّ أو أزَلَّ، أو أظلم أو أُظلَم، أو أجهلَ أو يُجهل عليَّ.
أمَّا بعد:
فأهل السنَّة والجماعة هم المتَّبعون لِما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونسبتهم إلى سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم التي حثَّ على التمسُّك بها بقوله: "فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليه بالنواجذ"، وحذَّر من مخالفتها بقوله: "وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة"، وقوله: "فمَن رغب عن سنَّتي فليس منِّي"، وهذا بخلاف غيرهم من أهل الأهواء والبدع، الذين سلكوا مسالكَ لم يكن عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأهل السنَّة ظهرت عقيدتهم بظهور بعثته صلى الله عليه وسلم، وأهلُ الأهواء وُلدت عقائدُهم بعد زمنه
ص -5- صلى الله عليه وسلم، منها ما كان في آخر عهد الصحابة، ومنها ما كان بعد ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ مَن عاش من أصحابه سيُدرك هذا التفرُّقَ والاختلاف، فقال: "وإنَّه مَن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً"، ثم أرشد إلى سلوك الصراط المستقيم، وهو اتِّباعُ سنَّته وسنَّة خلفائه الراشدين، وحذَّر من محدثات الأمور، وأخبر أنَّها ضلال، وليس من المعقول ولا المقبول أن يُحجب حقٌّ وهدى عن الصحابة رضي الله عنهم ويُدَّخر لأناس يجيئون بعدهم؛ فإنَّ تلك البدع المحدَثة كلّها شر، ولو كان في شيء منها خير لسبق إليه الصحابة، لكنَّها شرٌّ ابُتلي به كثير مِمَّن جاء بعدهم مِمَّن انحرفوا عمَّا كان عليه الصحابةُ رضي الله عنهم، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمَّة إلاَّ بما صلح به أوَّلها"، ولذا فإنَّ أهل السنَّة ينتسبون إلى السنَّة، وغيرهم ينتسبون
ص -6- إلى نحلهم الباطلة كالجبرية والقدرية والمرجئة والإمامية الاثني عشرية، أو إلى أسماء أشخاص معيَّنين، كالجهمية والزيدية والأشعرية والإباضية، ولا يُقال إنَّ من هذا القبيل (الوهابية)، نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإنَّ أهلَ السنَّة في زمن الشيخ محمد ـ رحمه الله ـ وبعده لا ينتسبون هذه النسبة؛ لأنَّه ـ رحمه الله ـ لم يأت بشيء جديد فيُنتسَب إليه، بل هو متَّبعٌ لِما كان عليه السلف الصالح، ومظهرٌ للسنَّة وناشرٌ لها وداع إليها، وإنَّما يُطلِق هذه النِّسبةَ الحاقدون على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ الإصلاحية للتشويش على الناس، وصرفهم عن اتِّباع الحقِّ والهدى، وأن يبقوا على ما هم عليه من البدع المحدثة المخالفة لِما كان عليه أهل السنّة والجماعة.
ص -7- قال الإمام الشاطبي في الاعتصام (1/79): "وقال عبد الرحمن بن مهدي: قد سئل مالك بن أنس عن السنة؟ قال: هي ما لا اسم له غير السنة، وتلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال ابن القيم في مدارج السالكين (3/179): "وقد سئل بعض الأئمة عن السنة؟ قال: ما لا اسم له سوى السنَّة. يعني أنَّ أهل السنَّة ليس لهم اسم يُنسبون إليه سواها".
وفي كتاب الانتقاء لابن عبد البر (ص:35): أنَّ رجلاً سأل مالكاً فقال: مَن أهل السنَّة؟ قال: "أهل السنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به؛ لا جهمي ولا قدَري ولا رافضي".
ولا شكَّ أنَّ الواجبَ على أهل السنَّة في كلِّ
ص -11- زمان ومكان التآلف والتراحم فيما بينهم، والتعاون على البرِّ والتقوى.
وإنَّ مِمَّا يؤسف له في هذا الزمان ما حصل من بعض أهل السنَّة من وحشة واختلاف، مِمَّا ترتَّب عليه انشغال بعضهم ببعض تجريحاً وتحذيراً وهجراً، وكان الواجب أن تكون جهودُهم جميعاً موجَّهةً إلى غيرهم من الكفَّار وأهل البدع المناوئين لأهل السنَّة، وأن يكونوا فيما بينهم متآلفين متراحمين، يذكِّرُ بعضهم بعضاً برفق ولين.
وقد رأيت كتابة كلمات؛ نصيحةً لهؤلاء جميعاً، سائلاً الله عزَّ وجلَّ أن ينفع بهذه الكلمات، إن أريد إلاَّ الإصلاحَ ما استطعت، وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكَّلت وإليه أنيب، وقد سمَّيت هذه النصيحة"رفقاً أهل السنَّة بأهل السنَّة".
ص -12- وأسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وأن يُصلح ذات بينهم وأن يؤلِّف بين قلوبهم وأن يهديهم سُبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور، إنَّه سميع مجيب.
ص -10- نعمة النطق والبيان
نعمُ الله على عباده لا تُعدُّ ولا تُحصى، ومن أعظم هذه النِّعم نعمة النطق التي يُبين بها الإنسانُ عن مراده، ويقول القولَ السديد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومَن فَقَدها لم تحصل له هذه الأمور، ولا يُمكنه التفاهم مع غيره إلاَّ بالإشارة أو الكتابة إن كان كاتباً، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقد قيل في تفسيره: إنَّه مثل ضربه الله لنفسه وللوثن، وقيل: إنَّه مثل للكافر والمؤمن، قال القرطبي (9/149): "روي عن ابن عباس وهو حسن؛ لأنَّه يعمُّ"، وهو واضحٌ في نقصان الرقيق
ص -11- الأبكم الذي لا يُفيد غيرَه ولا يستفيد منه مولاه أينما وجَّهه.
وقال الله عزَّ وجلَّ: { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}، فقد أقسم الله بنفسه على تحقق البعث والجزاء على الأعمال، كما أنَّ النطقَ حاصلٌ واقعٌ من المخاطَبين، وفي ذلك تنويه بنعمة النطق.
وقال سبحانه:
{خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وفسَّر الحسن البيانَ بالنطق، وفي ذلك تنويهٌ بنعمة النطق التي يحصل بها إبانة الإنسان عمَّا يريده.
وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} أي يُبصر بهما،{وَلِسَاناً}.أي.ينطق به فيعبِّر عمَّا في ضميره،
ص -12- {وَشَفَتَيْنِ} يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالاً لوجهه وفمه".
ومن المعلوم أنَّ هذه النعمة إنَّما تكون نعمة حقًّا إذا استُعمل النطق بما هو خير، أمَّا إذا استُعمل بشرٍّ فهو وبالٌ على صاحبه، ويكون مَن فقد هذه النعمة أحسنَ حالاً منه
ص -13- حفظ اللسان من الكلام إلاَّ في خير
قال الله عزَّ وجلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} وقال عزَّ وجلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
ص -14- وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}
وفي صحيح مسلم (2589) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلم، قال: ذكرُك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لَم يكن فيه فقد بهتَّه".
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً؛ يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تتفرَّقوا، ويكره لكم قيل وقال،
ص -15- وكثرة السؤال، وإضاعة المال" أخرجه مسلم (1715)، وجاءت هذه الثلاثة المكروهة في حديث المغيرة عند البخاري (2408) ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنَّى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه" رواه البخاري (6612)، ومسلم (2657)، واللفظ لمسلم.
وروى البخاري في صحيحه (10) عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمُ مَن سلم المسلمون من لسانه ويده"، ورواه مسلم في صحيحه (64) ولفظه: أنَّ رجلاً
ص -16- سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ المسلمين خيرٌ؟ قال: "مَن سلم المسلمون من لسانه ويده".
وروى مسلمٌ أيضاً من حديث جابر (65) بلفظ حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري.
قال الحافظ في شرح الحديث: "والحديث عامٌّ بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأنَّ اللسانَ يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم! يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإنَّ أثرها في ذلك لعظيم".
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابـتِـي بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتـابُـها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
ص -17- وروى البخاري في صحيحه (6474) عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن يضمن لي ما بين لحْيَيْه وما بين رجليه أضمن له الجنَّة"، المراد بما بين اللّحْيَيْن والرِّجْلَين اللسانُ والفرْجُ.
وروى البخاري في صحيحه (6475) ومسلم في صحيحه (74) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" الحديث.
قال النووي في شرح الأربعين في شرح هذا الحديث: "قال الشافعي: معنى الحديث إذا أراد أن يتكلَّم فليُفكِّر، فإن ظهر أنَّه لا ضرر عليه تكلَّم، وإن ظهر أنَّ فيه ضرراً وشكَّ فيه أمسك"، ونقل عن بعضهم أنَّه قال: "لو كنتم تشترون الكاغَد للحفظة لسكتُّم عن كثير من الكلام".
ص -18- قال الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه روضةُ العقلاء ونزهة الفضلاء (ص:45): "الواجبُ على العاقل أن يلزم الصمتَ إلى أن يلزمه التكلُّمُ، فما أكثرَ مَن ندم إذا نطق، وأقلَّ من يندم إذا سكت، وأطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً من ابتُلي بلسانٍ مطلقٍ، وفؤادٍ مطبقٍ".
وقال أيضاً (ص:47): "الواجبُ على العاقل أن يُنصف أذنيه من فيه، ويعلم أنَّه إنَّما جُعلت له أذنان وفم واحدٌ ليسمع أكثر مِمَّا يقول؛ لأنَّه إذا قال ربَّما ندم، وإن لَم يقل لَم يندم، وهو على ردِّ ما لَم يقل أقدر منه على ردِّ ما قال، والكلمةُ إذا تكلَّم بها ملكَتْه، وإن لَم يتكلَّم بها ملكها".
وقال أيضاً في (ص:49): "لسانُ العاقل يكون وراء قلبه، فإذا أراد القولَ رجع إلى القلب، فإن كان له قال، وإلاَّ فلا، والجاهلُ قلبُه في طرف
ص -19- لسانه، ما أتى على لسانه تكلَّم به، وما عقل دينَه من لَم يحفظ لسانه".
وروى البخاري في صحيحه (6477) ومسلم في صحيحه (2988)، واللفظُ لمسلم عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن ما فيها، يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب".
وفي آخر حديث وصيّة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ أخرجه الترمذي (2616) وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، قال صلى الله عليه وسلم: "وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخِرهم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم"، قاله جواباً لقول معاذ رضي الله عنه: "يا نبيَّ الله! وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟".
قال الحافظ ابن رجب في شرحه من كتابه جامع العلوم والحكم (2/147): "والمرادُ بحصائد
ص -20- الألسنة: جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته؛ فإنَّ الإنسانَ يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيِّئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمَن زرع خيراً مِن قولٍ أو عملٍ حَصَد الكرامة، ومن زرع شراًّ من قولٍ أو عملٍ حصد غداً الندامة".
وقال (2/146): "هذا يدلُّ على أنَّ كفَّ اللسان وضبطَه وحبسَه هو أصل الخير كلِّه، وأنَّ مَن ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه".
ونقل (2/149) عن يونس بن عُبيد أنَّه قال: "ما رأيت أحداً لسانه منه على بال إلاَّ رأيت ذلك صلاحاً في سائر عمله"، وعن يحيى بن أبي كثير أنَّه قال: "ما صلح منطقُ رجل إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطقُ رجل قطُّ إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله".
وروى مسلم في صحيحه (2581) عن أبي
ص -21- هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون مَن المُفلِس؟ قالوا: المُفلِسُ فينا مَن لا دِرهم له ولا متاع، فقال: إنَّ المفلسَ من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيَتْ حسناتُه قَبْل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثمَّ طُرح في النار".
وروى مسلم في صحيحه (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثاً طويلاً جاء في آخره: "بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ، دمُه ومالُه وعرضُه".
وروى البخاري في صحيحه (1739) ومسلم في صحيحه ـ واللفظُ للبخاري ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ
ص -22- قالوا: بلدٌ حرامٌ، قال: "فأيُّ شهرٍ هذا؟ قالوا: شهرٌ حرامٌ، قال: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومِكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مراراً، ثم رفع رأسَه فقال: اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: فوالَّذي نفسي بيده! إنَّها لوصيَّتُه إلى أمَّته، فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض".
وروى مسلم في صحيحه (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن دعا إلى هُدى كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص
ص -23- ذلك من آثامهم شيئاً".
قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (1/65) تعليقاً على حديث "إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلاَّ من إحدى ثلاث..." الحديث، قال: "وناسخ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لهذا الحديث وأمثاله، وناسخ غير النافع مِمَّا يوجب الإثمَ، عليه وزره ووزر مَن قَرَأَه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لِمَا تقدم من الأحاديث (مَن سنَّ سُنَّةً حسنة أو سيِّئة)، والله أعلم".
وروى البخاري في صحيحه (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ قال: مَن عادَى لِي وَلِياًّ فقد آذنتُه بالحرب" الحديث.