انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى قائم على منهج السلف الصالح في فهم النصوص الشرعية


    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:35 am

    ص -44- المجلس العاشر: في آداب الصيام الواجبة
    الحمد لله الذي أرشد الخلق إلى أكمل الآداب، وفتح لهم من خزائن رحمته وجوده كل باب، أنار بصائر المؤمنين فأدركوا الحقائق وطلبوا الثواب، وأعمى بصائر المعرضين عن طاعته فصار بينهم وبين نوره حجاب، هدى أولئك بفضله ورحمته وأضل الآخرين بعدله وحكمته، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ}. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العزيز الوهاب. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بأجل العبادات، وأكمل الآداب.
    صلى الله عليه وعلى جميع الآل والأصحاب، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب، وسلم تسليماً.
    إخواني: اعلموا أن للصيام آداباً كثيرة لا يتم إلا بها، ولا يكمل إلا بالقيام بها، وهي على قسمين:
    آداب واجبة، لا بد للصائم من مراعاتها والمحافظة عليها.
    وآداب مستحبة، ينبغي أن يراعيها ويحافظ عليها.
    فمن الآداب الواجبة: أن يقوم الصائم بما أوجب الله عليه من العبادات القولية والفعلية، ومن أهمها الصلاة المفروضة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، فتجب مراعاتها بالمحافظة عليها والقيام بأركانها وواجباتها وشروطها، فيؤديها في وقتها مع الجماعة في المساجد، فإن ذلك من التقوى التي من أجلها شرع الصيام وفرض على الأمة. وإضاعة الصلاة مناف للتقوى، وموجب للعقوبة، قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً}.
    ومن الصائمين من يتهاون بصلاة الجماعة مع وجوبها عليه، وقد أمر الله بها في كتابه فقال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا} يعني: أتموا صلاتهم {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ



    ص -45- وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} فأمر الله بالصلاة مع الجماعة في حال القتال والخوف، ففي حال الطمأنينة والأمن أولى.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فرخّص له. فلما ولّى، دعاه وقال: "هل تسمع النداء بالصلاة" قال: نعم، قال: "فأجب" رواه مسلم. فلم يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الجماعة مع أنه رجل أعمى وليس له قائد، وتارك الجماعة مع إضاعته الواجب قد حرم نفسه خيراً كثيراً بمضاعفة الحسنات، فإن صلاة الجماعة مضاعفة، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"، وفوت المصالح الاجتماعية التي تحصل للمسلمين باجتماعهم على الصلاة، من غرس المحبة والألفة، وتعليم الجاهل، ومساعدة المحتاج، وغير ذلك.
    وبترك الجماعة يعرض نفسه للعقوبة ومشابهة المنافقين، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن أمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار".
    وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من سره أن يلقي الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، قال: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنا إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف".
    ومن الصائمين من يتجاوز بالأمر فينام عن الصلاة في وقتها، وهذا من أعظم المنكرات، وأشد الإضاعة للصلوات، حتى قال كثير من العلماء: "إن من أخر الصلاة عن وقتها بدون عذر شرعي لم تقبل وإن صلى مئة مرة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عمله أمرنا فهو رد" رواه مسلم. والصلاة بعد وقتها ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم فتكون مردودة غير مقبولة".



    ص -46- ومن الآداب الواجبة: أن يجتنب الصائم جميع ماحرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال، فيجتنب الكذب وهو الإخبار بخلاف الواقع، وأعظمه الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كأن ينسب إلى الله أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تحليل حرام أو تحريم حلال، قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب فقال: "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" متفق عليه.
    ويجتنب الغيبة، وهي ذكرك أخاك بما يكره في غيبته، سواء ذكرته بما يكره في خلقته كالأعرج والأعور والأعمى على سبيل العيب والذم، أو بما يكره في خلقه كالأحمق والسفيه والفاسق ونحوه، وسواء كان فيه ما تقول أم لم يكن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الغيبة فقال: "هي ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟، قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" رواه مسلم.
    ولقد نهى الله عن الغيبة في القرآن، وشبهها بأبشع صورة؛ شبهها بالرجل يأكل لحم أخيه ميتاً، فقال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه مر ليلة المعراج بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: "من هؤلاء يا جبريل ؟" قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم". رواه أبو داود.
    ويجتنب النميمة، وهي نقل كلام شخص في شخص إليه ليفسد بينهما، وهي من كبائر الذنوب، قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نَمَّام" متفق عليه. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما



    ص -47- يعذبان في كبير "أي: في أمر شاق عليهما"، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة".
    والنميمة فساد للفرد والمجتمع، وتفريق بين المسلمين، وإلقاء للعداوة بينهم: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}، فمن نَمَّ إليك نَمَّ فيك، فاحذره.
    ويجتنب الغش في جميع المعاملات، من بيع وإجارة وصناعة ورهن وغيرها، وفي جميع المناصحات والمشورات، فإن الغش من كبائر الذنوب، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فاعله فقال صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" وفي لفظ: "من غش فليس مني" رواه مسلم.
    والغش:خديعة وخيانة وضياع للأمانة وفقد للثقة بين الناس، وكل كسب من الغش فإنه كسب خبيث حرام لا يزيد صاحبه إلا بعداً من الله.
    ويجتنب المعازف، وهي آلات اللهو بجميع أنواعها، كالعود والربابة والقانون والكمنجة والبيانو والكمان وغيرها، فإن هذه حرام، وتزداد تحريماً وإثماً إذا اقترنت بالغناء بأصوات جميلة، وأغاني مثيرة، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}. صح عن ابن مسعود: أنه سئل عن هذه الآية فقال: "والله الذي لا إله غيره هو الغناء". وصح أيضاً عن ابن عباس وابن عمر، وذكره ابن كثير عن جابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد. وقال الحسن: "نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير". وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من المعازف وقرنها بالزنا فقال صلى الله عليه وسلم: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" رواه البخاري. فالحِرَ: الفرج، والمراد به: الزنا. ومعنى "يستحلون" أي: يفعلونها فعل المستحل لها بدون مبالاة.
    وقد وقع هذا في زمننا، فكان من الناس من يستعمل هذه المعازف أو يستمعها كأنها شيء حلال.
    وهذا مما نجح فيه أعداء الإسلام بكيدهم للمسلمين حتى صدوهم عن ذكر الله ومهام دينهم ودنياهم، وأصبح كثير منهم يستمعون إلى ذلك أكثر مما يستمعون إلى قراءة القرآن، والأحاديث، وكلام أهل العلم المتضمن لبيان أحكام الشريعة وحكمها.
    فاحذروا أيها المسلمون نواقض الصوم ونواقصه، وصونوه عن قول الزور والعمل به، قال النبي صلى الله



    ص -48- عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". وقال جابر رضي الله عنه: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء".
    اللهم احفظ علينا ديننا، وكف جوارحنا عما يغضبك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



    ص -49- المجلس الحادي عشر: في آداب الصيام المستحبة
    الحمد لله مبلغ الراجي فوق مأموله، ومعطي السائل زيادة على مسؤوله، أحمده على نيل الهدى وحصوله، وأقر بوحدانيته إقرار عارف بالدليل وأصوله.
    وأصلي وأسلم على نبينا محمد عبده ورسوله، وعلى صاحبه أبي بكر الملازم له في ترحاله وحلوله، وعلى عمر حامي الإسلام بعزم، لا يخاف من فلوله، وعلى عثمان الصابر على البلاء حين نزوله، وعلى علي بن أبي طالب الذي أرهب الأعداء بشجاعته قبل نصوله، وعلى جميع آله وأصحابه الذين حازوا قصب السبق في فروع الدين وأصوله، ما تردد النسيم بين جنوبه وشماله وغربه وقبوله.
    إخواني: هذا المجلس في بيان القسم الثاني من آداب الصوم وهي الآداب المستحبة.
    فمنها: السحور، وهو الأكل في آخر الليل، سمى بذلك لأنه يقع في السحر، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقال: "تسحروا، فإن في السحور بركة" متفق عليه. وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر".
    وأثني صلى الله عليه وسلم على سحور التمر فقال: "نعم سحور المؤمن التمر" رواه أبو داود. وقال صلى الله عليه وسلم: "السحور كله بركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" رواه أحمد، وقال المنذري: "إسناده قوي".
    وينبغي للمتسحر أن ينوي بسحوره امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بفعله، ليكون سحوره عبادة، وأن ينوي به التقوّي على الصيام ليكون له به أجر.
    والسنة تأخير السحور ما لم يخش طلوع الفجر، لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وزيد ابن ثابت تسحّرا، فلما فرغا من





    عدل سابقا من قبل أبو عبيدة الأثري في الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 1:11 am عدل 1 مرات
    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:36 am

    ص -50- سحورهما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فصلى. قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة ؟، قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية" رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها: أن بلالاً كان يؤذن بليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" رواه البخاري.
    وتأخير السحور أرفق بالصائم، وأسلم من النوم عن صلاة الفجر، وللصائم أن يأكل ويشرب ولو بعد السحور بنية الصيام حتى يتيقن طلوع الفجر، لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، ويحكم بطلوع الفجر إما بمشاهدته في الأفق، أو بخبر موثوق به بأذان أو غيره. فإذا طلع الفجر أمسك وينوي بقلبه ولا يتلفظ بالنية، لأن التلفظ بها بدعة.
    ومن آداب الصيام المستحبة: تعجيل الفطور إذا تحقق غروب الشمس بمشاهدتها، أو غلب على ظنه الغروب بخبر موثوق به بأذان أو غيره، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "إن أحب عبادي إلى أعجلهم فطراً" رواه أحمد والترمذي.
    والسنة: أن يفطر على رطب، فإن عدم فتمر، فإن عدم فماء، لقول أنس رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء" رواه أحمد وأبو داود والترمذي. فإن لم يجد رطباً ولا تمراً ولا ماءً أفطر على ما تيسر من طعام أو شراب حلال، فإن لم يجد شيئاً نوى الإفطار بقلبه.
    ولا يمص إصبعه أو يجمع ريقه ويبلعه كما يفعل بعض العوام.
    وينبغي أن يدعو عند فطره بما أحب، ففي سنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد" قال في الزوائد: "إسناده صحيح". وروى أبو داود عن معاذ بن زهرة مرسلاً مرفوعاً: "كان إذا أفطر يقول: اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت". وله من حديث



    ص -51- ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر يقول: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله".
    ومن آداب الصيام المستحبة: كثرة القراءة، والذكر، والدعاء، والصلاة، والصدقة، وفي الحديث: "ذاكر الله في رمضان مغفور له". وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين" ورواه أحمد والترمذي. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة".
    وكان جوده صلى الله عليه وسلم يجمع أنواع الجود كلها من بذل العلم والنفس والمال لله عز وجل: في إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من تعليم جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وإطعام جائعهم. وكان جوده يتضاعف في رمضان لشرف وقته، ومضاعفة أجره، وإعانة العابدين فيه على عبادتهم، والجمع بين الصيام وإطعام الطعام وهما من أسباب دخول الجنة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح منكم اليوم صائماً ؟" فقال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟" قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً ؟" قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضاً ؟" قال أبو بكر: أنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في أمرئ إلا دخل الجنة".
    ومن آداب الصيام المستحبة: أن يستحضر الصائم قدر نعمة الله عليه بالصيام، حيث وفقه له، ويسره عليه، حتى أتم يومه وأكمل شهره، فإن كثيراً من الناس حرموا الصيام إما بموتهم قبل بلوغه، أو بعجزهم عنه، أو بضلالهم وإعراضهم عن القيام به. فليحمد الصائم ربه على نعمة الصيام التي هي



    ص -52- سبب لمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، ورفعة الدرجات في دار النعيم بجوار الرب الكريم.
    إخواني: تأدبوا بآداب الصيام، وتخلوا عن أسباب الغضب والانتقام، وتحلوا بأوصاف السلف الكرام، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها من الطاعة واجتناب الآثام.
    قال ابن رجب رحمه الله: "الصائمون على طبقتين:
    إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى، يرجو عنده عوض ذلك في الجنة. فهذا قد تاجر مع الله وعامله، والله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يخيب معه من عامله، بل يربح أعظم الربح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: "إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله إلا آتاك الله خيراً منه" خرجه الإمام أحمد. فهذا الصائم يعطي في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء، قال الله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} قال مجاهد وغيره: "نزلت في الصائمين". وفي حديث عبد الرحمن ابن سمرة الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه قال: "ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما دنا من حوض منع وطرد، فجاءه صيام رمضان فسقاه وأرواه" خرجه الطبراني وغيره.
    يا قوم، ألا خاطب في هذا الشهر إلى الرحمن ؟. ألا راغب فيما أعد الله للطائعين في الجنان ؟.

    من يرد ملك الجنان فليدع عنه التواني

    وليقم في ظلمة الليل إلى نور القرآن

    وليصل صوماً بصوم إن هذا العيش فان

    إنما العيش جوار الله في دار الأمان

    الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه، وفرحه برؤيته.



    ص -53- أهل الخصوص من الصوام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب

    والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب

    العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، همهم أجل من ذلك، من صام بأمر الله عن شهواته في الدنيا أدركها غداً في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
    يا معشر التائبين: صوموا ليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء.
    اللهم جمل بواطننا بالإخلاص لك، وحسن أعمالنا باتباع رسولك والتأدب بآدابه، اللهم أيقظنا من الغفلات، ونجنا من الدركات، وكفر عنا الذنوب والسيئات، واغفر لنا ولواليدنا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

    ص -54- المجلس الثاني عشر: في النوع الثاني من تلاوة القرآن
    الحمد لله معطي الجزيل لمن أطاعه ورجاه، وشديد العقاب لمن أعرض عن ذكره وعصاه، اجتبى من شاء بفضله فقربه وأدناه، وأبعد من شاء بعدله فولاه ما تولاه، أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومناراً للسالكين؛ فمن تمسك به نال مناه، ومن تعدى حدوده وأضاع حقوقه خسر دينه ودنياه.
    أحمده على ما تفضل به من الإحسان وأعطاه، وأشكره على نعمه الدينية والدنيوية، وما أجدر الشاكر بالمزيد وأولاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكامل في صفاته العالي عن النظراء والأشباه.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي اختاره على الخلق واصطفاه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما انشق الصبح وأشرق ضياه، وسلم تسليماً.
    إخواني: سبق في المجلس الخامس أن تلاوة القرآن على نوعين:
    تلاوة لفظه وهي قراءته، وتقدم الكلام عليها هناك.
    والنوع الثاني: تلاوة حكمه، بتصديق أخباره واتباع أحكامه، فعلاً للمأمورات، وتركاً للمنهيات.
    وهذا النوع هو الغاية الكبرى من إنزال القرآن، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}.
    ولهذا درج السلف الصالح رضي الله عنهم على ذلك، يتعلمون القرآن، ويصدقون به، ويطبقون أحكامه تطبيقاً إيجابياً عن عقيدة راسخة.
    قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله: "حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن، عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود، وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً". وهذا النوع من



    ص -55- التلاوة هو الذي عليه مدار السعادة والشقاوة، قال الله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.
    فبين الله في هذه الآيات الكريمة ثواب المتبعين لهداه الذي أوحاه إلى رسله، وأعظمه هذا القرآن العظيم، وبين عقاب المعرضين عنه.
    أما ثواب المتبعين له: فلا يضلون ولا يشقون، ونفي الضلال والشقاء عنهم يتضمن كمال الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة.
    وأما عقاب المعرضين عنه المتكبرين عن العمل به فهو الشقاء والضلال في الدنيا والآخرة، فإن له معيشة ضنكاً، فهو في دنياه في هم وقلق نفس، ليس له عقيدة صحيحة، ولا عمل صالح: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، وهو في قبره في ضيق وضنك، قد ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، وهو في حشره أعمى لا يبصر: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}، فهم لما عموا في الدنيا عن رؤية الحق وصموا عن سماعه وأمسكوا عن النطق به {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} جازاهم الله في الآخرة بمثل ما كانوا عليه في الدنيا، وأضاعهم كما أضاعوا شريعته {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}، {جزاءً وفاقاً}، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
    وفي صحيح البخاري: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى صلاة وفي لفظ: صلاة الغداة أقبل علينا بوجهه فقال: "من رأى منكم الليلة رؤيا ؟" قال: فإن رأى أحد قصها، فيقول: "ما شاء الله" فسألنا يوماً فقال: "هل رأى أحد منكم رؤيا ؟" قلنا: لا، قال: "لكني رأيت الليلة رجلين أتياني" فساق الحديث، وفيه: فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر ههنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إلى الرجل حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعد عليه فيفعل به مثل ما فعل به



    ص -56- المرة الأولى. فقلت: سبحان الله ! ما هذا ؟ فقالا لي: انطلق فذكر الحديث، وفيه: أما الرجل الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فهو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة".
    وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا، إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنة نبيه" رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
    وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً، فيؤتي بالرجل قد حمله فخالف أمره، فيمثل له خصماً، فيقول: يا رب، حملته إياي فبئس الحامل، تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذه بيده، فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار".
    وفي صحيح مسلم: عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القرآن حجة لك أو عليك".
    وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "القرآن شافع مشفع، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار".
    فيا من كان القرآن خصمه، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة ؟.
    ويل لمن شفعاؤه خصماؤه يوم تربح البضاعة.
    عباد الله: هذا كتاب الله يتلى بين أيديكم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً يتصدع، ومع هذا فلا أذن تسمع، ولا عين تدمع، ولا قلب يخشع، ولا امتثال للقرآن فيرجى به أن يشفع، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينتهي عن القبيح فيلحق بأهل الصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آياته وجلت قلوبهم وجلتها جلوة، أولئك قوم أنعم الله عليهم فعرفوا حقه فاختاروا الصفوة.



    ص -57- قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون".

    يا نفس فاز الصالحون بالتقى وأبصروا الحق وقلبي قد عمى

    يا حسنهم والليل قد أجنهم ونورهم يفوق نور الأنجم

    ترنموا بالذكر في ليلهمو فعيشهم قد طاب بالترنم

    قلوبهم للذكر قد تفرغت دموعهم كلؤلؤ منتظم

    أسحارهم بنورهم قد أشرقت وخلع الغفران خير القسم

    قد حفظوا صيامهم من لغوهم وخشعوا في الليل في ذكرهم

    ويحك يا نفس ألا تيقظي للنفع قبل أن تزل قدمي

    مضى الزمان في ثوان وهوى فاستدركي ما قد بقى واغتنمي

    إخواني: احفظوا القرآن قبل فوات الإمكان، وحافظوا على حدوده من التفريط والعصيان، واعلموا أنه شاهد لكم أو عليكم عند الملك الديان، ليس من شكر نعمة الله بإنزاله أن تتخذه وراءنا ظهرياً، وليس من تعظيم حرمات الله أن تتخذ أحكامه سخرياً: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً وَقَالَ

    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:40 am

    ص -58- الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً}.
    اللهم ارزقنا تلاوة كتابك حق التلاوة، واجعلنا ممن نال به الفلاح والسعادة، اللهم ارزقنا إقامة لفظه ومعناه، وحفظ حدوده ورعاية حرمته، اللهم اجعلنا من الراسخين في العلم، المؤمنين بمحكمه ومتشابهه، تصديقاً بأخباره وتنفيذاً لأحكامه، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين



    ص -59- المجاس الثالث عشر: في آداب قراءة القرآن
    الحمد لله الذي لقدرته يخضع من يعبد، ولعظمته يخشع من يركع ويسجد، ولطيب مناجاته يسهر المتهجد ولا يرقد، ولطلب ثوابه يبذل المجاهد نفسه ويجهد، يتكلم سبحانه بكلام يجل أن يشابه كلام المخلوقين ويبعد، ومن كلامه كتابه المنزل على نبيه أحمد نقرؤه ليلاً ونهاراً ونردد، فلا يخلق عن كثرة الترداد ولا يمل ولا يفند.
    أحمده حمد من يرجو الوقوف على بابه غير مشرَّد.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أخلص لله وتعبد.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي قام بواجب العبادة وتزود، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الصديق الذي ملأ قلوب مبغضيه قرحات تنفد، وعلى عمر الذي لم يزل يقوي الإسلام ويعضد، وعلى عثمان الذي جاءته الشهادة فلم يتردد، وعلى عليّ الذي ينسف زرع الكفر بسيفه ويحصد، وعلى سائر آله وأصحابه، صلاة مستمرة على الزمان المؤبد، ووسلم تسليماً
    إخواني: إن هذا القرآن الذي بين أيديكم تتلونه وتسمعونه وتحفظونه وتكتبونه، هو كلام ربكم رب العالمين، وإله الأولين والآخرين، وهو حبله المتين، وصراطه المستقيم، وهو الذكر المبارك والنور المبين.
    تكلم الله به حقيقةً على الوصف الذي يليق بجلاله وعظمته، وألقاه على جبريل الأمين أحد الملائكة الكرام المقربين، فنزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين.
    وصفه الله بأوصاف عظيمة لتعظموه وتحترموه، فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان} {ذَلِكَ نَتْلُوهُ



    ص -60- بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاّ خَسَاراً} {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} {إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد} {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ~ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ



    ص -61- خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. وقال تعالى عن الجن {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}، وقال تعالى {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}.
    فهذه الأوصاف العظيمة الكثيرة التي نقلناها وغيرها مما لم ننقله تدل كلها على عظمة هذا القرآن، ووجوب تعظيمه، والتأدب عند تلاوته، والبعد حال قراءته عن الهزء واللعب.
    فمن آداب التلاوة: إخلاص النية لله تعالى فيها، لأن تلاوة القرآن من العبادات الجليلة كما سبق بيان فضلها، وقد قال الله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}.
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرؤا القرآن وابتغوا به وجه الله عز وجل، من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه" رواه أحمد.
    ومعنى "يتعجلونه": يطلبون به أجر الدنيا.
    ومن آدابها: أن يقرأ بقلب حاضر، يتدبر ما يقرأ، ويتفهم معانيه، ويخشع عند ذلك قلبه، ويستحضر بأن الله يخاطبه في هذا القرآن، لأن القرآن كلام الله عز وجل.
    ومن آدابها: أن يقرأ على طهارة، لأن هذا من تعظيم كلام الله عز وجل، ولا يقرأ القرآن وهو جنب حتى يغتسل إن قدر على الماء، أو يتيمم إن كان عاجزاً عن استعمال الماء لمرض أو عدمٍ، وللجنب أن يذكر الله ويدعوه بما يوافق القرآن إذا لم يقصد القرآن، مثل أن يقول: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، أو يقول: "ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب".
    ومن آدابها: أن لا يقرأ القرآن في الأماكن المستقذرة، أو في مجمع لا ينصت فيه لقراءته، لأن قراءته في مثل ذلك إهانة له، ولا يجوز أن يقرأ القرآن الكريم في بيت الخلاء ونحوه مما أعد للتبوّل أو التغوّط، لأنه لا يليق بالقرآن الكريم.
    ومن آدابها: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند إرادة القراءة،



    ص -62- لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، ولئلا يصده الشيطان عن القراءة أو كمالها. وأما البسملة فإن كان ابتداء قراءته من أثناء السورة فلا يبسمل، وإن كان من أول السورة فليبسمل، إلا في سورة التوبة فإنه ليس في أولها بسملة، لأن الصحابة رضي الله عنهم أشكل عليهم حين كتابة المصحف، هل هي سورة مستقلة، أو بقية الأنفال ؟ ففصلوا بينهما بدون بسمله.
    ومن آدابها: أن يحسن صوته بالقرآن ويترنم به، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أذن الله لشيء" أي: ما استمع لشيء، "كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن بجهر به".
    وفيهما عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءة منه صلى الله عليه وسلم".
    لكن إن كان حول القارئ أحد يتأذّى بجهره في قراءته، كالنائم والمصلي ونحوهما، فإنه لا يجهر جهراً يشوش عليه أو يؤذيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون ويجهرون بالقراءة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن" رواه مالك في الموطأ، قال ابن عبد البر: وهو حديث صحيح.
    ومن آدابها: أن يرتل القرآن ترتيلاً، لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}، فيقرأه بتمهّل بدون سرعة، لأن ذلك أعون على تدبر معانيه، وتقويم حروفه وألفاظه.
    وفي صحيح البخاري: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كانت مداً. ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم".
    وسئلت أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان يقطع قراءته آية آية، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين" رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
    وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة". ولا بأس



    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:42 am

    ص -63- بالسرعة التي ليس فيها إخلال باللفظ، بإسقاط بعض الحروف أو إدغام ما لا يصح إدغامه، فإن كان فيها إخلال باللفظ فهي حرام.لأنها تغيير للقرآن.
    ومن آدابها: أن يسجد إذا مر بآية سجدة وهو على وضوء في أي وقت كان من ليل أو نهار، فيكبر للسجود ويقول: سبحان ربي الأعلى، ويدعو، ثم يرفع من السجود بدون تكبير ولا سلام لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن يكون السجود في أثناء الصلاة، فإنه يكبر إذا سجد وإذا أقام، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك" رواه مسلم.
    وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
    وهذا يعم سجود الصلاة، وسجود التلاوة في الصلاة.
    هذه بعض آداب القراءة، فتأدبوا بها، واحرصوا عليها، وابتغوا بها من فضل الله.
    اللهم اجعلنا من المعظمين لحرماتك، الفائزين بهباتك، الوارثين لجناتك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين



    ص -64- المجاس الرابع عشر: في مفطرات الصوم
    الحمد لله المطّلع على ظاهر الأمر ومكنونه، العالم بسر العبد وجهره وظنونه، المتفرّد بإنشاء العالم وإبداع فنونه، المدبر لكل منهم في حركته وسكونه، أحسن كل شيء خلق، وفتق الأسماع وشق الحدق، وأحصى عدد مافي الشجر من ورق، في أعواده وغصونه، مد الأرض ووضعها وأوسع السماء ورفعها، وسير النجوم وأطلعها، في حندس الليل ودجونه، أنزل القطر وبلاً رذاذًا، فأنقذ به البذر من اليبس إنقاذًا {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِه}. أحمده على جوده وإحسانه.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وسلطانه.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المؤيد ببرهانه. صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر في جميع شانه، وعلى عمر مقلق كسرى في إيوانه، وعلى عثمان ساهر ليله في قرآنه، وعلى علي قالع باب خيبر ومزلزل حصونه، وعلى آله وأصحابه المجتهد كل منهم في طاعة ربه في حركته وسكونه، وسلم تسليماً.
    إخواني: قال الله تعالى: { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }.
    ذكر الله في هذه الآية الكريمة أصول مُفَطِّرات الصوم.
    وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في السنّة تمام ذلك.
    والمفطرات سبعة أنواع:
    الأول: الجماع. وهو إيلاج الذكر في الفرج، وهو أعظمها وأكبرها إثماً. فمتى جامع الصائم بطل صومه فرضاً كان أو نفلاً.
    ثم إن كان في نهار رمضان والصوم واجب عليه لزمه مع القضاء الكفارة المغلظة، وهي: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا لعذر شرعي،



    ص -65- كأيام العيدين والتشريق، أو لعذر حسي كالمرض والسفر لغير قصد الفطر، فإن أفطر لغير عذر ولو يوماً واحداً لزمه استئناف الصيام من جديد ليحصل التتابع. فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين فإطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين نصف كيلو وعشرة غرامات من البر الجيد.
    وفي صحيح مسلم: أن رجلاً وقع بامرأته في رمضان، فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "هل تجد رقبة ؟"قال: لا، قال:"هل تستطيع صيام شهرين" يعني: متتابعين كما في الروايات الأخرى قال: لا، قال: "فأطعم ستين مسكيناً" وهو في الصحيحن مطولاً.
    الثاني: إنزال المني باختياره بتقبيل أو لمس أو استمناء أو غير ذلك.
    لأن هذا من الشهوة التي لا يكون الصوم إلا باجتنابها، كما جاء في الحديث القدسي: " يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" رواه البخاري.
    فأما التقبيل واللمس بدون إنزال فلا يفطر، لما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه". وفي صحيح مسلم: أن عمر بن أبي سلمة سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم ؟. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سل هذه" يعني: أم سلمة، فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له".
    لكن إن كان الصائم يخشى على نفسه من الإنزال بالتقبيل ونحوه، أو من التدرج بذلك إلى الجماع لعدم قوته على كبح شهوته، فإن التقبيل ونحوه يحرم حينئذ، سداً للذريعة، وصوناً لصيامه عن الفساد. ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصائم عن المبالغة في الاستنشاق خوفاً من تسرب الماء إلى جوفه فيفسد صومه.
    وأما الإنزال بالاحتلام أو بالتفكير المجرد عن العمل فلا يفطر، لأن الاحتلام بغير اختيار الصائم، وأما التفكير فمعفو عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" متفق عليه.



    ص -66- الثالث: الأكل والشرب، وهو إيصال الطعام أو الشراب إلى الجوف من طريق الفم أو الأنف، أياً كان نوع المأكول أو المشروب، لقوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }.
    والسعوط في الأنف كالأكل والشرب لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط ابن صبرة: "وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً" رواه الخمسة وصححه الترمذي.
    فأما شم الروائح فلا يفطر، لأنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف.
    الرابع: ما كان بمعنى الأكل والشرب، وهو شيئان:
    أحدهما: حقن الدم في الصائم، مثل أن يصاب بنزيف فيحقن به دم فيفطر بذلك، لأن الدم هو غاية الغذاء بالطعام والشراب، وقد حصل ذلك بحقن الدم فيه.
    الشئ الثاني: الإبر المغذية التي يكتفي بها عن الأكل والشرب، فإذا تناولها أفطر، لأنها وإن لم تكن أكلاً وشرباً حقيقة فإنها بمعناهما، فثبت لها حكمهما. فأما الإبر غير المغذية فإنها غير مفطرة، سواء تناولها عن طريق العضلات أو عن طريق العروق، حتى ولو وجد حرارتها في حلقه فإنها لا تفطر، لأنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا بمعناهما، فلا يثبت لها حكمهما، ولا عبرة بوجود الطعم في الحلق في غير الأكل والشرب، ولذا قال فقهاؤنا: "لو لطخ باطن قدمه بحنظل، فوجد طعمه في حلقه لم يفطر".
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة "حقيقة الصيام": "ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطراً هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن، أو ماكان داخلاً من منفذ، أو واصلاً إلى جوف، ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله" قال: "وإذا لم يكن دليل على تعليق الله ورسوله الحكم على هذا الوصف، كان قول القائل: إن الله ورسوله إنما جعل هذا مفطرًا لهذا قولاً بلا علم" انتهى كلامه رحمه الله.
    النوع الخامس: إخراج الدم بالحجامة، لقول النبي صلى الله عليه



    ص -67- وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه أحمد وأبو داود من حديث شداد بن أوس، قال البخاري: "ليس في الباب أصح منه".
    وهذا مذهب الإمام أحمد وأكثر فقهاء الحديث.
    وفي معنى إخراج الدم بالحجامة: إخراجه بالفصد ونحوه مما يؤثر على البدن كتأثير الحجامة.
    وعلى هذا: فلا يجوز للصائم صوماً واجبا أن يتبرع بإخراج دمه، إلا أن يوجد مضطر له لا تندفع ضرورته إلا به، ولا ضرر على الصائم بسحب الدم منه، فيجوز للضرورة، ويفطر ذلك اليوم ويقضي.
    وأما خروج الدم بالرعاف أو السعال، أو الباسور، أو قلع السن، أو شق الجرح، أو غرز الإبرة ونحوها، فلا يفطر، لأنه ليس بحجامة ولا بمعناها، إذ لا يؤثر في البدن كتأثير الحجامة.
    السادس: التقيؤ عمداً، وهو إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض" رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الحاكم. ومعنى "ذرعه": غلبه.
    ويفطر إذا تعمد القئ إما بالفعل، كعصر بطنه، أو غمز حلقه، أو بالشم مثل أن يشم شيئاً ليقئ به، أو بالنظر، كأن يتعمد النظر إلى شيء ليقئ به فيفطر بذلك كله. أما إذا حصل القئ بدون سبب منه فإنه لا يضر.
    وإذا راجت معدته لم يلزمه منع القئ لأن ذلك يضره، ولكن يتركه فلا يحاول القئ ولا منعه.
    السابع: خروج دم الحيض والنفاس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟". فمتى رأت دم الحيض أو النفاس فسد صومها، سواء في أول النهار أم في آخره، ولو قبل الغروب بلحظة، وإن أحست بانتقال الدم ولم يبرز إلا بعد الغروب فصومها صحيح.
    ويحرم على الصائم تناول هذه المفطرات إن كان صومه واجباً، كصوم رمضان والكفارة والنذر، إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر، لأن من تلبس بواجب لزمه إتمامه إلا لعذر صحيح. ثم إن كان في نهار رمضان وجب عليه الإمساك بقية اليوم والقضاء، وإلا لزمه القضاء دون الإمساك. أما إن كان صومه تطوعاً فإنه يجوز له الفطر ولو بدون عذر، لكن الأولى الإتمام.



    ص -68- إخواني: حافظوا على الطاعات، وجانبوا المعاصيَ والمحرمات، وابتهلوا إلى فاطر الأرض والسموات، وتعرضوا لنفحات جوده فإنه جزيل الهبات، واعلموا أنه ليس لكم من دنياكم إلا ما أمضيتموه في طاعة مولاكم، فالغنيمةَ الغنيمةَ قبل فوات الأوان، والمرابحةَ المرابحةَ قبل حلول الخسران.
    اللهم وفقنا لاغتنام الأوقات، وشغلها بالأعمال الصالحات، اللهم جد علينا بالفضل والإحسان، وعاملنا بالعفو والغفران، اللهم يسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى واغفر لنا في الآخرة والأولى، اللهم ارزقنا شفاعة نبينا وأوردنا حوضه، وأسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبداً يارب العالمين.
    اللهم صَلِّ وسلّم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.



    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:43 am

    ص -69- المجلس الخامس عشر: في شروط الفطر بالمفطرات وما لا يفطر وما يجوز للصائم
    الحمد لله الحكيم الخالق، العظيم الحليم الصادق، الرحيم الكريم الرازق، رفع السبع الطرائق بدون عمد ولا علائق، وثبت الأرض بالجبال الشواهق، تعرف إلى خلقه بالبراهين والحقائق، وتكفل بأرزاق جميع الخلائق، خلق الإنسان من ماء دافق، وألزمه بالشرائع لوصل العلائق، وسامحه عن الخطأ والنسيان فيما لا يوافق.
    أحمده ما سكت ساكت ونطق ناطق. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص لا منافق.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي عمت دعوته الحضيض والشاهق، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر القائم يوم الردة بالحزم اللائق، وعلى عمر مدوخ الكفار وفاتح المغالق، وعلى عثمان الذي ما استحل حرمته إلا مارق، وعلى عليّ الذي كان لشجاعته يسلك المضايق، وعلى آله وأصحابه الذين كل منهم على من سواهم فائق، وسلم تسليماً.
    إخواني: إن المفطرات السابقة ما عدا الحيض والنفاس، وهي: الجماع، والإنزال بالمباشرة، والأكل والشرب وما بمعناهما، والحجامة، والقيء، لا يفطر الصائم شيء منها إلا إذا تناولها عالماً ذاكراً مختاراً، فهذه ثلاثة شروط:
    الشرط الأول: أن يكون عالماً، فإن كان جاهلاً لم يفطر، لقوله تعالى في سورة البقرة: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }، فقال الله: "قد فعلت"، وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
    وسواءً كان جاهلاً بالحكم الشرعي، مثل أن يظن أن هذا الشئ غير مفطر فيفعله، أو جاهلاً بالحال أي: بالوقت، مثل أن يظن أن الفجر لم يطلع فيأكل وهو طالع، أو يظن أن الشمس قد غربت فيأكل وهي لم تغرب، فلا يفطر في ذلك كله، لما في الصحيحين عن عدي بن



    ص -70- حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَد } عمدت إلى عقالين: أحدهما أسود والآخر أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن وسادك إذن لعريض؛ إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل"فقد أكل عدي بعد طلوع الفجر ولم يمسك حتى تبين له الخيطان، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، ولأنه كان جاهلاً بالحكم.
    وفي صحيح البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: "أفطرنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس" ولم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء لأنهم كانوا جاهلين بالوقت، ولو أمرهم بالقضاء لنقل، لأنه مما توفر الدواعي على نقله لأهميته، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "حقيقة الصيام": "إنه نقل هشام بن عروة أحد رواة الحديث عن أبيه عروة: أنهم لم يؤمروا بالقضاء"، لكن متى علم ببقاء النهار وأن الشمس لم تغب أمسك حتى تغيب.
    ومثل ذلك: لو أكل بعد طلوع الفجر يظن أن الفجر لم يطلع، فتبين له بعد ذلك أنه قد طلع، فصيامه صحيح، ولا قضاء عليه، لأنه كان جاهلاً بالوقت، وقد أباح الله له الأكل والشرب حتى يتبين له الفجر، والمباح المأذون فيه لا يؤمر فاعله بالقضاء.
    الشرط الثاني: أن يكون ذاكراً، فإن كان ناسياً فصيامه صحيح ولا قضاء عليه، لما سبق في آية البقرة، ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نسى وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" متفق عليه واللفظ لمسلم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمامه دليل على صحته، ونسبة إطعام الناسي وسقيه إلى الله دليل على عدم المؤاخذة عليه، لكن متى ذَكَرَ أو ذُكِّر أمسك ولَفَظَ ما في فمه إن كان فيه شيء لزوال عذره حينئذ.
    ويجب على من رأى صائماً يأكل أو



    ص -71- يشرب أن ينبهه، لقوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى }.
    الشرط الثالث: أن يكون مختاراً، أي: متناولاً للمفطر باختياره وإرادته، فإن كان مكرهاً فصيامه صحيح ولا قضاء عليه، لأن الله سبحانه رفع الحكم عمن كفر مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان، فقال تعالى: { َنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، فإذا رفع الله حكم الكفر عمن أكره عليه فما دونه أولى، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه ابن ماجه والبيهقي وحسنه النووي.
    فلو أكره الرجل زوجته على الوطء وهي صائمة فصيامها صحيح ولا قضاء عليها، ولا يحل له إكراهها على الوطء وهي صائمة، إلا أن صامت تطوعاً بغير إذنه وهو حاضر. ولو طار إلى جوف الصائم غبار، أو دخل فيه شيء بغير اختياره، أو تمضمض أو استنشق فنزل إلى جوفه شيء من الماء بغير اختياره فصيامه صحيح، ولا قضاء عليه.
    ولا يفطر الصائم بالكحل والدواء في عينه ولو وجد طعمه في حلقه، لأن ذلك ليس بأكل ولا شرب ولا بمعناهما.
    ولا يفطر بتقطير دواء في أذنه أيضاً، ولا بوضع دواء في جرح ولو وجد طعم الدواء في حلقه، لأن ذلك ليس أكلاً ولا شرباً، ولا بمعنى الأكل والشرب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "حقيقة الصيام": "ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء، فعلمنا أنها ليست مفطرة" قال: "فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمه الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك، والحديث المروي في الكحل، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروح عند النوم وقال: "ليتقه الصائم" ضعيف، رواه أبو داود في السنن، ولم يروه غيره، قال أبو داود: "قال لي



    ص -72- يحي بن معين: هذا حديث منكر" قال شيخ الإسلام: "والأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولابد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه" انتهى كلامه رحمه الله، وهو كلام رصين، مبني على براهين واضحة، وقواعد ثابتة.
    ولا يفطر بذوق الطعام إذا لم يبلعه، ولا بشم الطيب والبخور، لكن لا يستنشق دخان البخور لأن له أجزاء تصعد، فربما وصل إلى المعدة شيء منه.
    ولا يفطر بالمضمضة والاستنشاق، لكن لا يبالغ في ذلك، لأنه ربما تسرب شيء من الماء إلى جوفه، وعن لقيط بن صيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة.
    ولا يفطر بالتسوك، بل هو سنة له في أول النهار وآخره كالمفطرين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" رواه الجماعة. وهذا عام في الصائمين وغيرهم في جميع الأوقات.
    وقال عامر بن ربيعة رضي الله عنه : "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصى يتسوك وهو صائم" رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
    ولا ينبغي للصائم تطهير أسنانه بالمعجون لأن له نفوذاً قوياً، ويخشى أن يتسرب مع ريقه إلى جوفه، وفي السواك غنية عنه.
    ويجوز للصائم أن يفعل ما يخفف عنه شدة الحر والعطش، كالتبرد بالماء ونحوه، لما روى مالك وأبو داود عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج [اسم موضع] يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر". وَبَلَّ ابن عمر رضي الله عنهما ثوباً فألقاه على نفسه وهو صائم. وكان لأنس بن مالك رضي الله عنه حجر منقور يشبه الحوض، إذا وجد الحر وهو صائم نزل فيه، وكأنه والله أعلم مملوء ماء، وقال الحسن: "لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم"، ذكر هذه الآثار البخاري في صحيحه تعليقاً.



    ص -73- إخواني: تفقهوا في دين الله لتعبدوا الله على بصيرة، فإنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.
    اللهم فقهنا في ديننا، وارزقنا العمل به، وثبتنا عليه، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين



    ص -74- المجلس السادس عشر: في الزكاة
    الحمد لله الذي يمحو الزلل ويصفح، ويغفر الخطأ ويسمح، كل من لاذ به أفلح، وكل من عامله يربح، رفع السماء بغير عمد فتأمل وألمح، وأنزل القطر فإذا الزرع في الماء يسبح، والمواشي بعد الجدب في الخصب تسرح، وأقام الورق علىالورق تسبح، أغنى وأفقر وربما كان الفقر أصلح، فكم من غني طرحه الأشر والبطر أقبح مطرح، هذا قارون ملك الكثير لكنه بالقليل لم يسمح، نبه فلم يستيقظ، وليم فلم ينفعه اللوم، إذ قال له قومه لا تفرح.
    أحمده ما أمسى النهار وما أصبح.
    وأشهد أن لا إله إلا الله الغني الجواد من بالعطاء الواسع وأفسح.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاد لله بنفسه وماله وأبان الحق وأوضح، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الذي لازمه حضراً وسفراً ولم يبرح، وعلى عمر الذي لم يزل في إعزاز الدين يكدح، وعلى عثمان الذي أنفق الكثير في سبيل الله وأصلح، وعلى عليّ ابن عمه وأبرأ ممن يغلو فيه أو يقدح، وعلى بقية الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً.
    إخواني: قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً}، وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُون}.
    والآيات في وجوب الزكاة وفرضيتها كثيرة.
    وأما الأحاديث، فمنها:
    ما في صحيح مسلم عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بنى الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج" فقال رجل: الحج وصيام رمضان، قال: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعته



    ص -75- من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" الحديث بمعناه.
    فالزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وهي قرينة الصلاة في مواضيع كثيرة من كتاب الله عز وجل.
    قد أجمع المسلمون على فرضيتها إجماعاً قطعياً، فمن أنكر وجوبها مع علمه به فهو كافر خارج عن الإسلام، ومن بخل بها أو انتقص منها شيئاً فهو من الظالمين المتعرضين للعقوبة والنكال.
    وتجب الزكاة في أربعة أشياء:
    الأول: الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ}، وقوله سبحانه: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، وأعظم حقوق المال الزكاة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" رواه البخاري. ولا تجب الزكاة فيه حتى يبلغ نصاباً وهو خمسة أوسق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس في حب ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق" رواه مسلم. والوسق: ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فيبلغ النصاب ثلثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، الذي تبلغ زنته بالبر الجيد ألفين وأربعين جراماً، أي: كيلوين وخمس عشر الكيلو. فتكون زنة النصاب بالبر الجيد: ستمائة واثنى عشر كيلو. ولا زكاة فيما دونها.
    ومقدار الزكاة فيها: العشر كاملاً فيما سقي بدون كلفة، ونصفه فيما سقي بكلفة.
    ولا تجب الزكاة في الفواكه والخضروات والبطيخ ونحوها، لقول عمر: "ليس في الخضروات صدقة". وقول علي: "ليس في التفاح وما أشبه صدقة". ولأنها ليست بحب ولا ثمر، لكن إذا باعها بدراهم وحال الحول على ثمنها ففيه الزكاة.
    الثاني: بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم ضأناً كانت أم معزاً، إذا كانت سائمة، وأعدت للدّرِّ والنسل، وبلغت نصاباً.
    وأقل النصاب في الإبل: خمس. وفي البقر: ثلاثون، وفي الغنم: أربعون.
    والسائمة هي: التي ترعى الكلأ النابت بدون بذر آدمي كل السنة أو أكثرها، فإن لم تكن سائمة فلا زكاة فيها، إلا أن تكون للتجارة، وإن أعدت للتكسب بالبيع والشراء



    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:44 am

    ص -76- والمناقلة فيها فهي عروض تجارة، تزكى زكاة تجارة، سواءً كانت سائمة أو معلفة، إذا بلغت نصاب التجارة بنفسها أو يضمها إلى تجارته.
    الثالث: الذهب والفضة على أي حال كانت، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} والمراد بكنزها: عدم إنفاقها في سبيل الله. وأعظم الإنفاق في سبيل الله: إنفاقها في الزكاة.
    وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد".
    والمراد بحقها: زكاتها، كما تفسره الرواية الثانية: "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته" الحديث.
    وتجب الزكاة في الذهب والفضة سواء كانت نقوداً أو تبراً أو حلياً يلبس أو يعار، أو غير ذلك، لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة فيهما بدون تفصيل.
    وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب "أي: سواران غليظان" فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتعطين زكاة هذا ؟" قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار ؟" قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: هما لله ورسوله" رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي. قال في بلوغ المرام: "وإسناده قوي".
    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورِق "تعني: من فضة" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذا ؟ " فقلت: صنعتهن أتزين لك يارسول الله، قال:"أتؤدين زكاتهن ؟" قالت: لا، أو ما شاء الله، قال: " هو حسبك من النار" أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه، وقال: "على شرط



    ص -77- الشيخين"، وقال ابن حجر في "التلخيص": "على شرط الصحيح"،وقال ابن دقيق: "على شرط مسلم".
    ولا تجب الزكاة في الذهب حتى يبلغ نصاباً، وهو عشرون ديناراً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذهب: "ليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً" رواه أبو داود. والمراد: الدينار الإسلامي الذي يبلغ وزنه مثقالاً، وزنة المثقال: أربعة غرامات وربع، فيكون نصاب الذهب: خمسة وثمانين غراماً، يعادل: أحد عشر جنيهاً سعودياً وثلاثة أسباع جنيه.
    ولا تجب الزكاة في الفضة حتى تبلغ نصاباً، وهو خمس أواقي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" متفق عليه.
    والأوقية: أربعون درهماً إسلامياً، فيكون النصاب: مائتي درهم إسلامي، والدرهم: سبعة أعشار مثقال، فيبلغ: مائة وأربعين مثقالاً، وهي خمسمائة وخمسة وتسعون غراماً، تعادل: ستة وخمسين ريالاً عربياً من الفضة.
    ومقدار الزكاة في الذهب والفضة: ربع العشر فقط.
    وتجب الزكاة في الأوراق النقدية لأنها بدل عن الفضة فتقوم مقامها، فإذا بلغت نصاب الفضة وجبت فيها الزكاة.
    وتجب الزكاة في الذهب والفضة والأوراق النقدية سواء كانت حاضرة عنده أم في ذمم الناس، وعلى هذا: فتجب الزكاة في الدين الثابت، سواء كان قرضاً أم ثمن مبيع أم أجرة أم غير ذلك، إذا كان علي ملئ باذل فيزكيه مع ماله كل سنة، أو يؤخر زكاته حتى يقبضه ثم يزكيه لكل ما مضى من السنين، فإذا كان على معسر أو مماطل يصعب استخراجه منه فلا زكاة فيه حتى يقبضه، فيزكّيه سنة واحدة، سنة قبضه، ولا زكاة عليه فيما قبلها من السنين.
    ولا تجب الزكاة فيما سوى الذهب والفضة من المعادن وإن كان أغلى منهما، إلا أن يكون للتجارة فيزكي زكاة تجارة.
    الرابع مما تجب فيه الزكاة: عروض التجارة، وهي: كل ما أعده للتكسب والتجارة، من عقار وحيوان وطعام وشراب وسيارات، وغيرها من جميع أصناف المال، فيقوّمها كل سنة بما تساوي عند رأس الحول، ويخرج ربع



    ص -78- عشر قيمتها، سواء كانت قيمتها بقدر ثمنها الذي اشتراها به أم أقل أم أكثر، ويجب على أهل البقالات والآلات وقطع الغيارات وغيرها أن يحصوها إحصاءً دقيقاً شاملاً للصغير والكبير، ويخرجوا زكاتها، فإن شق عليهم ذلك احتاطوا وأخرجوا ما يكون به براءة ذممهم.
    ولا زكاة فيما أعده الإنسان لحاجته من طعام وشراب، وفرش ومسكن، وحيوانات وسيارة، ولباس، سوى حلي الذهب والفضة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " متفق عليه.
    ولا تجب الزكاة فيما أعد للأجرة من عقارات وسيارات ونحوها، وإنما تجب في أجرتها إذا كانت نقوداً، وحال عليها الحول، وبلغت نصاباً بنفسها، أو بضمها لما عنده من جنسها.
    إخواني: أدوا زكاة أموالكم، وطيبوا بها نفسا، فإنها غنم لا غرم، وربح لا خسارة، وأحصوا جميع ما يلزمكم زكاته، واسألوا الله القبول لما أنفقتم، والبركة فيما أبقيتم.
    والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين



    ص -79- المجلس السابع عشر: في أهل الزكاة
    الحمد لله الذي لا رافع لما وضع، ولا واضع لما رفع، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا قاطع لما وصل، ولا واصل لما قطع، فسبحانه من مدبر عظيم، وإله حكيم رحيم، فبحكمته وقع الضرر، وبرحمته نفع.
    أحمده على جميع أفعاله، وأشكره على واسع إفضاله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحكم ما شرع، وأبدع ما صنع.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله والكفر قد علا وارتفع، صال واجتمع فأهبطه من عليائه وقمع، وفرق من شره ما اجتمع. صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الذي نَجَمَ نَجْمُ شجاعته يوم الردة وطلع، وعلى عمر الذي عز به الإسلام وامتنع، وعلى عثمان المقتول ظلماً وما ابتدع، وعلى علي الذي دحض الكفر بجهاده وقمع، وعلى جميع آله وأصحابه ما سجد مصل وركع، وسلّم تسليماً.
    إخواني: قال الله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
    في هذه الآية الكريمة بين الله تعالى مصارف الزكاة وأهلها المستحقين لها، بمقتضى علمه وحكمته، وعدله ورحمته، وحصرها في هؤلاء الأصناف الثمانية، وبين أن صرفها فيهم فريضة لازمة، وأن هذه القسمة صادرة عن علم الله وحكمته، فلا يجوز تعديها وصرف الزكاة في غيرها، لأن الله تعالى أعلم بمصالح خلقه، وأحكم في وضع الشئ في موضعه { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }.
    فالصنف الأول والثاني: الفقراء والمساكين، وهم الذين لا يجدون كفايتهم وكفاية عائلتهم، لا من نقود حاضرة، ولا من رواتب ثابتة، ولا من صناعة قائمة، ولا من غلة كافية، ولا من نفقات على غيرهم واجبة. فهم في



    ص -80- حاجة إلى مواساة ومعونة، قال العلماء: "فيعطون من الزكاة ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة كاملة، حتى يأتي حول الزكاة مرة ثانية، ويعطي الفقير لزواج يحتاج إليه ما يكفي لزواجه، وطالب العلم الفقير لشراء كتب يحتاجها، ويعطى من له راتب لا يكفيه وعائلته من الزكاة ما يكمل كفايتهم، لأنه ذو حاجة، وأما من كان له كفاية فلا يجوز إعطاؤه من الزكاة وإن سألها، بل الواجب نصحه وتحذيره من سؤال مالا يحل له، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله عز وجل وليس في وجهه مزعة لحم" رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر" رواه مسلم. وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى" رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر" رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح". وإن سأل الزكاة شخص وعليه علامة الغنى عنها وهو مجهول الحال، جاز إعطاؤه منها بعد إعلامه أنه لاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجلان يسألانه، فقلب فيهما البصر، فرآهما جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما، ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
    الصنف الثالث من أهل الزكاة: العاملون عليها، وهم الذين ينصبهم ولاة الأمور لجباية الزكاة من أهلها، وحفظها وتصريفها. فيعطون منها بقدر عملهم وإن كانوا أغنياء. وأما الوكلاء لفرد من الناس في توزيع زكاته فليسوا من العاملين عليها، فلا يستحقون منها شيئا من أجل وكالتهم فيها، لكن إن تبرعوا في تفريقها على أهلها بأمانة واجتهاد كانوا شركاء في أجرها لما، روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ أو قال: يعطي ما أمر به كاملاً



    ص -81- موفراً] طيباً به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر به أحد المتصدقين". وإن لم يتبرعوا بتفريقها، أعطاهم صاحب المال من ماله لا من الزكاة.
    الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم ضعفاء الإيمان، أو من يخشى شرهم، فيعطون من الزكاة ما يكون به تقوية إيمانهم، أو دفع شرهم إذا لم يندفع إلا بإعطائهم.
    الصنف الخامس: الرقاب، وهم الأرقاء المكاتبون الذين اشتروا أنفسهم من أسيادهم، فيعطون من الزكاة ما يوفون به أسيادهم ليحرروا بذلك أنفسهم. ويجوز أن يشترى عبد فيعتق، وأن يفك بها مسلم من الأسر، لأن هذا داخل في عموم الرقاب.
    الصنف السادس: الغارمون الذين يتحملون غرامة، وهم نوعان:
    أحدهما: من تحمّل حمالة لإصلاح ذات البين وإطفاء الفتنة، فيُعطي من الزكاة بقدر حمالته، تشجيعاً له على هذا العمل النبيل، الذي به تأليف المسلمين، وإصلاح ذات بينهم، وإطفاء الفتنة، وإزالة الأحقاد والتنافر، وعن قبيصة الهلالي قال: تحملت حمالة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها"، ثم قال: "يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك.." وذكر تمام الحديث، رواه مسلم.
    الثاني: من تحمل حمالة في ذمته لنفسه، وليس عنده وفاء، فيعطي من الزكاة ما يوفى به دينه وإن كثر، أو يوفي طالبه وإن لم يسلم للمطلوب، لأن تسليمه للطالب يحصل به المقصود من تبرئة ذمة المطلوب.
    الصنف السابع: في سبيل الله، وهو الجهاد في سبيل الله، الذي يقصد به أن تكون كلمة الله هي العليا، لا لحمية ولا لعصبية، فيعطى المجاهد بهذه النية ما يكفيه لجهاده من الزكاة، أو يشتري بها سلاح وعتاد للمجاهدين في سبيل الله، لحماية الإسلام والذود عنه، وإعلاء كلمة الله سبحانه.



    ص -82- الصنف الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر الذي انقطع به السفر، ونفد ما في يده، فيعطي من الزكاة ما يوصله إلى بلده وإن كان غنياً فيها ووجد من يقرضه، لكن لا يجوز أن يستصحب معه نفقة قليلة لأجل ما لا يستحق.
    ولا تدفع الزكاة لكافر إلا أن يكون من المؤلفة قلوبهم.
    ولا تدفع لغني عنها بما يكفيه من تجارة أو صناعة أو حرفة أو راتب أو مغل أو نفقة واجبة، إلا أن يكون من العاملين عليها، أو المجاهدين في سبيل الله، أو الغارمين لإصلاح ذات البين.
    ولا تدفع الزكاة في إسقاط واجب سواها، فلا تدفع للضيف بدلاً عن ضيافته، ولا لمن تجب نفقته من زوجة أو قريب بدلاً عن نفقتهما. ويجوز دفعها للزوجة والقريب فيما سوى النفقة الواجبة، فيجوز أن يقضي بها ديناً عن زوجته لا تستطيع وفاءه، وأن يقضي بها عن والديه، أو أحد من أقاربه دينا لا يستطيع وفاءه. ويجوز أن يدفع الزكاة لأقاربه في سداد نفقتهم إذا لم تكن واجبة عليه، لكون ماله لا يتحمل الإنفاق عليهم، أو نحو ذلك.
    ويجوز دفع الزوجة زكاتها لزوجها في قضاء دين عليه ونحوه، وذلك لأن الله سبحانه علق استحقاق الزكاة بأوصاف عامة تشمل من ذكرنا وغيرهم، فلا يخرج أحد منها إلا بنص أو إجماع.
    وفي الصحيحين من حديث زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالصدقة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إنك أمرت بالصدقة، وكان عندي حلي فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم".
    وعن سلمان بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصدقة على الفقير صدقة، وعلى ذوي الرحم صدقة وصلة" رواه النسائي والترمذي وابن خزيمة والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد".
    وذوو الرحم هم: القرابة، قربوا أم بعدوا.
    ولا يجوز أن يسقط الدين عن الفقير وينويه عن الزكاة، لأن الزكاة أخذ وإعطاء، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، وإسقاط الدين عن الفقير ليس أخذاً ولا رداً، ولأن مافي ذمة الفقير



    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:45 am

    ص -83- دين غائب لا يتصرف فيه، فلا يجزئ عن مال حاضر يتصرف فيه، ولأن الدين أقل في النفس من الحاضر وأدنى، فأداؤه عنه كأداء الردئ عن الجيد.
    وإذا اجتهد صاحب الزكاة فدفعها لمن يظن أنه من أهلها فتبين بخلافه فإنها تجزئه، لأنه اتقى الله ما استطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال رجل: والله لأتصدقن.." فذكر الحديث، وفيه: "فوضع صدقته في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على غني. فقال: الحمد لله على غني، فأتى فقيل: أما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله" وفي رواية لمسلم: "أما صدقتك فقد تقبلت".
    وعن معن بن يزيد رضي الله عنه قال: كان أبي يخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن" رواه البخاري.
    إخواني: إن الزكاة لا تجزئ ولا تقبل حتى توضع في المحل الذي وضعها الله فيه، فاجتهدوا رحمكم الله فيها، واحرصوا على أن تقع موقعها وتحل محلها، لتبرئوا ذممكم، وتطهروا أموالكم، وتنفذوا أمر ربكم، وتقبل صدقاتكم، والله الموفق.
    والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين



    ص -84- المجلس الثامن عشر: في غزوة بدر
    الحمد لله القوي المتين، القاهر الظاهر الملك الحق المبين، لا يخفى على سمعه خفي الأنين، ولا يغرب عن بصره حركات الجنين، ذل لكبريائه جبابرة السلاطين، وقضى القضاء بحكمته وهو أحكم الحاكمين.
    أحمده حمد الشاكرين، وأسأله معونة الصابرين.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على العالمين، المنصور ببدر بالملائكة المنزلين، صلى الله وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
    إخواني: في هذا الشهر المبارك نصر الله المسلمين في غزوة بدر الكبرى على أعدائهم المشركين وسمى ذلك اليوم يوم الفرقان لأنه سبحانه فرق فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله والمؤمنين وخذل الكفار المشركين، كان ذلك في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة.
    وكان سبب هذه الغزوة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أبا سفيان قد توجه من الشام إلى مكة بعير قريش، فدعا أصحابه إلى الخروج إليه لأخذ العير، لأن قريشاً حرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليس بينهم وبينهم عهد، وقد أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقاموا ضد دعوتهم دعوة الحق، فكانوا مستحقين لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعيرهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً على فرسين وسبعين بعيراً يتعقبونها، منهم سبعون رجلاً من المهاجرين، والباقون من الأنصار، يقصدون العير لا يريدون الحرب، ولكن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ويتم ما أراد، فإن أبا سفيان علم بهم فبعث صارخاً إلى قريش يستنجدهم ليحموا عيرهم وترك الطريق المعتادة وسلك ساحل البحر فنجا.



    ص -85- أما قريش فإنه لما جاءهم الصارخ خرجوا بأشرافهم عن بكرة أبيهم في نحو ألف رجل معهم مئة فرس وسبعمائة بعير {بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ومعهم القيان يغنين بهجاء المسلمين.
    فلما علم أبو سفيان بخروجهم بعث إليهم يخبرهم بنجاته ويشير عليهم بالرجوع وعدم الحرب، فأبوا ذلك، وقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نبلغ بدرًا ونقيم فيه ثلاثاً، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً.
    أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما علم بخروج قريش جمع من معه من الصحابة فاستشارهم وقال: "إن الله قد وعدني إحدى الطائفتين إما العير أو الجيش"، فقام المقداد بن الأسود وكان من المهاجرين وقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله عز وجل، فوالله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك.
    وقام سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأوس رضي الله عنه فقال: يا رسول الله لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا منها ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا فيه تبع لأمرك، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ولئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك، وما نكره أن تكون تلقى العدوَّ بنا غداً، إننا لصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك.
    فسُرّ النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع من كلام المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وقال: "سيروا وأبشروا، فوا الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم".
    فسار النبي صلى الله عليه وسلم بجنود الرحمن حتى نزلوا أدنى ماء من مياه بدر، فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل ؟ أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن تتقدم عنه أو تأخر ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل هو الرأي والحرب



    ص -86- والمكيدة"، فقال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ونغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه فنشرب ولا يشربون. فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأي ونهض فنزل بالعدوة الدنيا مما يلي المدينة، وقريش بالعدوة القصوى مما يلي مكة، وأنزل الله تلك الليلة مطراً كان على المشركين وابلاً شديداً ووحلاً زلقاً يمنعهم من التقدم، وكان على المسلمين طَلاًّ طهرهم ووطأ لهم الأرض، وشد الرمل، ومهد المنزل، وثبت الأقدام، وبنى المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريضاً على تَلٍّ مشرف على ميدان الحرب، ثم نزل صلى الله عليه وسلم من العريش فسوّى صفوف أصحابه، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده إلى مصارع المشركين، ومحلات قتلهم، يقول: "هذا مصرع فلان إن شاء الله، هذا مصرع فلان"، فما جاوز أحد منهم موضع إشارته، ثم نظر صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وإلى قريش فقال: "اللهم هذه قريش؛ جاءت بفخرها وخيلائها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد".
    واستنصر المسلمون بربهم واستغاثوا به، فاستجاب لهم {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}.
    ثم تقابل الجمعان، وحمى الوطيس، واستدارت رحى الحرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، ومعه أبو بكر وسعد بن معاذ يحرسهما، فما زال صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويستنصره ويستغيثه، فأغفى إغفاءة ثم خرج يقول: {سَيُهزمُ الجَمعُ ويولَّونَ الدُبُر}. وحرّض أصحابه على القتال وقال: "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة" فقام عمير بن الحمام الأنصاري وبيده تمرات يأكلهن فقال: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض ؟، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال: بخٍ بخٍ يا رسول الله، ما



    ص -87- بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم ألقى التمرات وقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
    وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من تراب أو حصاً فرمى بها القوم فأصابت أعينهم ما منهم واحد إلا ملأت عينة وشغلوا بالتراب في أعينهم آية من آيات الله عز وجل.
    فهزم جمع المشركين، وولوا الأدبار، وأتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، قتلوا سبعين رجلاً واسروا سبعين. أما القتلى فألقى منهم أربعة وعشرون رجلاً من صناديدهم في قليب من قُلْبَان بدر، منهم أبو جهل، وشيبة بن ربيعة، وأخوه عتبه، وابنه الوليد بن عتبة.
    وفي صحيح البخاري: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الكعبة فدعا على هؤلاء الأربعة قال: فأشهد بالله لقد رأيتهم صرعى قد غيرتهم الشمس، وكان يوماً حاراً.
    وفيه أيضاً عن أبي طلحة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها، ثم مشى وأتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلانُ ابنَ فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنما قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟" قال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم".
    وأما الأسرى فإن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة فيهم، وكان سعد بن معاذ قد ساءه أمرهم وقال: كانت أول وقعة أوقعها الله في المشركين وكان الإثخان في الحرب أحب إلي من استبقاء الرجال.
    وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان يعني قريباً له فاضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.
    وقال أبو بكر رضي الله عنه: هم بنو العم والعشيرة وأرى أن تأخذ منهم



    ص -88- فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفدية، فكان أكثرهم يفتدى بالمال من أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم، ومنهم من افتدى بتعليم صبيان أهل المدينة الكتابة والقراءة، ومنهم من كان فداؤه إطلاق مأسور عند قريش من المسلمين، ومنهم من قتله النبي صلى الله عليه وسلم صبراً لشدة أذيته، ومنهم من من عليه بدون فداء للمصلحة.
    هذه غزوة بدر انتصرت فيها فئة قليلة على فئة كثيرة {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} انتصرت الفئة القليلة؛ لأنها قائمة بدين الله، تقاتل لإعلاء كلمته والدفاع عن دينه، فنصرها الله عز وجل.
    فقوموا بدينكم أيها المسلمون لتنصروا على أعدائكم، واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
    اللهم انصرنا بالإسلام، واجعلنا من أنصاره والدعاة إليه، وثبتنا عليه إلى أن نلقاك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    ص -89- المجلس التاسع عشر: في غزوة فتح مكة –شرفها الله-
    الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره، وعلم مورد كل مخلوق ومصدره، وأثبت في أم الكتاب ما أراده وسطّره، فلا مؤخر لما قدمه ولا مقدم لما أخره، ولا ناصر لمن خذله ولا خاذل لمن نصره، تفرد بالملك والبقاء، والعزة والكبرياء فمن نازعه ذلك أحقره، الواحد الأحد الفرد الصمد، فلا شريك له فيما أبدعه وفطره، الحي القيوم فما أقومه بشؤون خلقه وأبصره، العليم الخبير فلا يخفى عليه ما أسره العبد وأضمره أحمده على ما أولى من فضله ويسره.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قبل توبة العاصي فعفا عن ذنبه وغفره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أوضح به سبيل الهداية ونوره، وأزال به ظلمات الشرك وقتره، وفتح عليه مكة فأزال الأصنام من البيت وطهره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام البررة، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بلغ القمر بدره وسَرَرَه، وسلّم تسليما.
    إخواني: كما كان في هذا الشهر المبارك غزوة بدر التي انتصر فيها الإسلام وعلا مناره، كان فيه أيضاً غزوة فتح مكة البلد الأمين في السنة الثامنة من الهجرة فأنقذه الله بهذا الفتح العظيم من الشرك الأثيم، وصار بلداً إسلامياً حل فيه التوحيد عن الشرك، والإيمان عن الكفر، والإسلام عن الاستكبار، أُعلنت فيه عبادة الواحد القهار، وكسرت فيه أوثان الشرك فما لها بعد ذلك انجبار، وسبب هذا الفتح العظيم أنه لما تم الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش في الحديبية في السنة السادسة كان من أحب أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فعل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فعل، فدخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان بين



    ص -90- القبلتين دماء في الجاهلية فانتهزت بنو بكر هذه الهدنة فأغارت على خزاعة وهم آمنون، وأعانت قريش حلفاءها بني بكر بالرجال والسلاح سراً على خزاعة حلفاء النبي صلم، فقدم جماعة منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبروه بما صنعت بنو بكر وإعانة قريش لها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأمنعنكم مما أمنع نفسي منه".
    أما قريش فسُقِطَ في أيديهم ورأوا أنهم بفعلهم هذا تقضوا عهدهم، فأرسلوا زعيمهم أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد في المدة، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلم يرد عليه، ثم كلم أبا بكر وعمر ليشفعا له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفلح، ثم كلم علي بن أبي طالب فلم يفلح أيضاً، فقال له: ما ترى يا أبا الحسن ؟، قال: ما أرى شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجِرْ بين الناس، قال: أترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟، قال: لا والله، ولكن ما أجد لك غيره. ففعل أبو سفيان، ثم رجع إلى مكة، فقالت له قريش: ما وراءك ؟ قال: أتيت محمداً فكلمته فوالله ما رد علي شيئاً، ثم أتيت ابن أبي قحافة وابن الخطاب فلم أجد خيراً، ثم أتيت علياً فأشار علي بشئ صنعته أجرت بين الناس، قالوا: فهل أجاز ذلك محمدٌ ؟. قال: لا، قالوا ويحك، ما زاد الرجل [ يعنون علياً ] أن لعب بك.
    وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد أمر أصحابه بالتجهز للقتال، وأخبرهم بما يريد واستنفر من حوله من القبائل وقال: "اللهم خذ الأخبار والعيون عن قريش حتى نبغتها في بلادها" ثم خرج من المدينة بنحو عشرة آلاف مقاتل، وولي على المدينة عبد الله بن أم مكتوم.
    ولما كان في أثناء الطريق لقيه في الجحفة عمه العباس بأهله وعياله مهاجراً مسلماً، وفي مكان يسمى الأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، وكانا من أشد أعدائه، فأسلما، فقبل منهما، وقال في أبي سفيان: "أرجو أن يكون خلفاً من حمزة".
    ولما بلغ صلى الله عليه وسلم مكاناً يسمى مر الظهران قريباً من مكة أمر الجيش فأوقدوا عَشَرَة آلاف نار، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وركب العباس بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ليلتمس أحداً يبلغ قريشاً ليخرجوا إلى النبي صلى الله



    ص -91- عليه وسلم فيطلبوا الأمان منه، ولا يحصل القتال في مكة البلد الأمين، فبينما هو يسير
    [b]
    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:46 am

    ص -91- عليه وسلم فيطلبوا الأمان منه، ولا يحصل القتال في مكة البلد الأمين، فبينما هو يسير سمع كلام أبي سفيان يقول لبُدَيْل بن ورقاء: ما رأيت كالليلة نيراناً قط، فقال بُدَيْل: هذه خزاعة، فقال أبو سفيان: خزاعة أقل من ذلك وأذل، فعرف العباس صوت أبي سفيان فناداه فقال: مالك أبا الفضل ؟، قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، قال فما الحيلة ؟، قال العباس: أركب حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ويحك يا أبا سفيان، أما آن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله". فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك !، لقد علمت أن لو كان مع الله غيره لأغني عني، قال: "أما آن لك أن تعلم أني رسول الله". فتلكأ أبو سفيان، فقال له العباس: ويحك أسلم. فأسلم وشهد شهادة الحق، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس أن يوقف أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى يمر به المسلمون، فمرت به القبائل على راياتها ما تمر به قبيلة إلا سأل عنها العباس فيخبره، فيقول: ما لي ولها، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، فقال: من هذه ؟، قال العباس: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فلما حاذاه سعد قال: أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب وأجلها فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ورايته مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان أخبره بما قال سعد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة" ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤخذ الراية من سعد وتدفع إلى ابنه قيس، ورأى أنها لم تخرج عن سعد خروجاً كاملاً إذ صارت إلى ابنه.
    ثم مضى صلى الله عليه وسلم وأمر بركز رايته بالحُجون، ثم دخل مكة فاتحاً مؤزراً منصوراً، قد طأطأ رأسه تواضعاً لله عز وجل ، حتى إن جبهته تكاد تمس رحله، وهو يقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} ويرجعها.
    وبعث صلى الله عليه وسلم على إحدى المجنبتين خالد بن الوليد وعلى الأخرى الزبير بن العوام، وقال: "من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته وأغلق بابه فهو آمن".
    ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد الحرام فطاف به على راحلته، وكان حول البيت



    ص -92- ستون وثلثمائة صنم، فجعل صلى الله عليه وسلم يطعنها بقوس معه ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً" "جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد" والأصنام تتساقط على وجوهها، ثم دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة فإذا فيها صور، فأمر بها فمحيت، ثم صلى فيها، فلما فرغ دار فيها وكبر في نواحيها ووحد الله عز وجل، ثم وقف على باب الكعبة وقريش تحته ينتظرون ما يفعل، فأخذ بعضادتي الباب وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم ؟" قالوا: خيراً، أخ كريم ، وابن أخ كريم، قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}، اذهبوا فأنتم الطلقاء".
    ولما كان اليوم الثاني من الفتح قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجرة، فإن أحدٌ ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب".
    وكانت الساعة التي أحلت فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طلوع الشمس إلى صلاة العصر يوم الفتح.
    ثم أقام صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوماً بمكة يقصر الصلاة لأنه لم ينو قطع السفر، أقام كذلك لتوطيد التوحيد ودعائم الإسلام وتثبيت الإيمان ومبايعة الناس.
    وفي الصحيح: عن مجاشع قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح ليبايعه على الهجرة فقال صلى الله عليه وسلم: "ذهب أهل الهجرة بما فيها، ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد".
    وبهذا الفتح المبين تم نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وعاد بلد الله بلداً إسلامياً أعلن فيه بتوحيد الله وتصديق رسوله وتحكيم كتابه،



    ص -93- وصارت الدولة فيه للمسلمين، واندحر الشرك وتبدد ظلامه، ولله الحمد، وذلك من فضل الله على عباده إلى يوم القيامة.
    اللهم ارزقنا شكر هذه النعمة العظيمة، وحقق النصر للأمة الإسلامية في كل وقت في كل مكان، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



    ص -94- المجلس العشرون: في أسباب النصر الحقيقية
    الحمد لله العظيم في قدره، العزيز في قهره، العالم بحال العبد في سره وجهره، الجائد على المجاهد بنصره، وعلى المتواضع من أجله برفعه، يسمع صريف القلم عند خط سطره، ويرى النمل يدب في فيافي قفره، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، أحمده على القضاء حلوه ومره.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقامة لذكره.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالبر إلى الخلق في بره وبحره، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر السابق بما وقر من الإيمان في صدره، وعلى عمر معز الإسلام بحزمه وقهره،، وعلى عثمان ذي النورين الصابر من أمره على مره، وعلى علي ابن عمه وصهره، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما جاد السحاب بقطره، وسلم تسليماً.
    إخواني: لقد نصر الله المؤمنين في مواطن كثيرة في بدر والأحزاب والفتح وحنين وغيرها نصرهم الله وفاء بوعده، {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
    نصرهم الله لأنهم قائمون بدينه، وهو الظاهر على الأديان كلها، فمن تمسك به فهو ظاهر على الأمم كلها {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
    نصرهم الله تعالى لأنهم قاموا بأسباب النصر الحقيقية المادية منها والمعنوية، فكان عندهم من العزم ما برزوا به على أعدائهم أخذاً بتوجيه الله تعالى لهم وتمشياً مع هديه وتثبيته إياهم: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس} {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ



    ص -95- وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} فكانوا بهذه التقوية والتثبيت يسيرون بقوة وعزم وجد، وأخذوا بكل نصيب من القوة امتثالاً لقول ربهم سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} من القوة النفسية الباطنة والقوة العسكرية الظاهرة نصرهم الله تعالى لأنهم قاموا بنصر دينه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}.
    ففي هاتين الآيتين الكريمتين: وعد الله بالنصر من ينصره وعداً مؤكداً بمؤكدات لفظية ومعنوية، أما المؤكدات اللفظية فهي القسم المقدر، لأن التقدير والله لينصرن الله من ينصره، وكذلك اللام والنون في لينصرن كلاهما يفيد التوكيد وأما التوكيد المعنوي ففي قوله {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} فهو سبحانه قوي لا يضعف، وعزيز لا يذل، وكل قوة وعزة تضاده فستكون ذلاً وضعفاً.
    وفي قوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} تثبيت للمؤمن عندما يستبعد النصر في نظره لبعد أسبابه عنده، فإن عواقب الأمور لله وحده، يغير سبحانه ما شاء حسب ما تقتضيه حكمته.
    وفي هاتين الآيتين بيان الأوصاف التي يستحق بها النصر وهي أوصاف يتحلى بها المؤمن بعدالتمكين في الأرض، فلا يغريه هذا التمكين بالأشر والبطر والعلو والفساد وإنما يزيده قوة في دين الله وتمسكاً به.
    الوصف الأول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ}، والتمكين في الأرض لا يكون إلا بعد تحقيق عبادة الله وحده كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، فإذا قام العبد بعبادة الله مخلصاً له في أقواله وأفعاله وإرادته لا يريد بها إلا وجه الله والدار الآخرة، ولا يريد بها جاهاً ولا ثناءً من الناس، ولا مالاً ولا شيئاً من الدنيا، واستمر على هذه العبادة المخلصة في السراء والضراء، والشدة والرخاء؛ مكّن الله له في الأرض، إذن فالتمكين في الأرض يستلزم وصفاً سابقاً عليه وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وبعد التمكين والإخلاص يكون:



    ص -96- الوصف الثاني: وهو إقامة الصلاة، بأن يؤدي الصلاة على الوجه المطلوب منه، قائماً بشروطها وأركانها وواجباتها، وتمام ذلك القيام بمستحباتها، فيحسن الطهور، ويقيم الركوع والسجود والقيام والقعود، ويحافظ على الوقت وعلى الجمعة والجماعات، ويحافظ على الخشوع وهو حضور القلب وسكون الجوارح، فإن الخشوع روح الصلاة ولبها، والصلاة بدون خشوع كالجسم بدون روح، وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها" رواه أبو داود والنسائي.
    الوصف الثالث: إيتاء الزكاة {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، بأن يعطوها إلى مستحقيها طيبة بها نفوسهم كاملة بدون نقص يبتغون بذلك فضلاً من الله ورضواناً، فيزكون بذلك أنفسهم ويطهرون أموالهم وينفعون إخوانهم من الفقراء والمساكين وغيرهم من ذوي الحاجات وقد سبق بيان مستحقي الزكاة الواجبة في المجلس السابع عشر.
    الوصف الرابع: الأمر بالمعروف {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} والمعروف كل ما أمر الله به ورسوله من واجبات ومستحبات، يأمرون بذلك إحياء لشريعة الله وإصلاحاً لعباده واستجلاباً لرحمته ورضوانه، فالمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا، فكما أن المؤمن يحب لنفسه أن يكون قائماً بطاعة ربه، فكذلك يجب أن يحب لإخوانه من القيام بطاعة الله ما يحب لنفسه، والأمر بالمعروف عن إيمان وتصديق يستلزم أن يكون الآمر قائماً بما يأمر به لأنه يأمر به عن إيمان واقتناع بفائدته وثمراته العاجلة والآجلة.
    الوصف الخامس: النهي عن المنكر {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}، والمنكر كل ما نهى الله عنه ورسوله من كبائر الذنوب وصغائرها مما يتعلق بالعبادة أو الأخلاق أو المعاملة ينهون عن ذلك كله صيانة لدين الله وحماية لعباده واتقاء لأسباب الفساد والعقوبة.
    فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبقاء الأمة وعزتها



    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:47 am

    ص -97- ووحدتها حتى لا تتفرق بها الأهواء وتتشتت بها المسالك، ولذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الدين على كل مسلم ومسلمة مع القدرة {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فلولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتفرق الناس شيعاً وتمزقوا كل ممزق كل حزب بما لديهم فرحون وبه فضلت هذه الأمة على غيرها {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} ويتركه {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
    فهذه الأوصاف الخمسة متى تحققت مع القيام بما أرشد الله إليه الحزم والعزيمة وإعداد القوة الحسية حصل النصر بإذن الله {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}، فيحصل للأمة من نصر الله ما لم يخطر لهم على بال.
    وإن المؤمن الواثق بوعد الله ليعلم أن الأسباب المادية مهما قويت فليست بشيء بالنسبة إلى قوة الله الذي خلقها وأوجدها، افتخرت عادٌ بقوتها وقالوا: من أشد منا قوة ؟، فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ}.
    وافتخر فرعون بملك مصر وأنهاره التي تجرى من تحته، فأغرقه الله بالماء الذي كان يفتخر بمثله، وأورث ملكه موسى وقومه، وهو الذي في نظر فرعون مهين ولا يكاد يبين.
    وافتخرت قريش بعظمتها وجبروتها، فخرجوا من ديارهم برؤسائهم وزعمائهم بطراً ورئاء الناس، يقولون: لا نرجع حتى نقدم بدراً فتنحر فيها الجزور، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً. فهزموا على يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شر هزيمة، وسحبت جثثهم جيفاً في قليب بدر، وصاروا حديث الناس في الذل والهوان إلى يوم القيامة.
    ونحن المسلمين



    ص -98- في هذا العصر لو أخذنا بأسباب النصر، وقمنا بواجب ديننا، وكنا قدوة لا مقتدين، ومتبوعين لا أتباعاً لغيرنا، وأخذنا بوسائل الحرب العصرية بصدق وإخلاص؛ لنصرنا الله على أعدائنا كما نصر أسلافنا، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
    اللهم هيئ لنا من أسباب النصر ما به نصرنا وعزتنا وكرامتنا ورفعة الإسلام، وذل الكفر والعصيان إنك جواد كريم
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



    ص -99- المجلس الحادي والعشرون: في فضل العشرالأخيرة من رمضان
    الحمد لله المتفرد بالجلال والبقاء، والعظمة والكبرياء، والعز الذي لايرام، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الملك الذي لا يحتاج إلى أحد، العلي عن مداناة الأوهام، الجليل العظيم الذي لا تدركه العقول والأفهام الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، فكل من عليها مفتقر إليه على الدوام، وفق من شاء فآمن به واستقام ثم وجد لذة مناجاة مولاه فهجر لذيذ المنام، وصحب رفقة تتجافى جنوبهم عن المضاجع رغبة في المقام فلو رأيتهم وقد سارت قوافلهم في حندس الظلام، فواحد يسأل العفو عن زلته، وآخر يشكو ما يجد من لوعته وآخر شغله ذكره عن مسألته، فسبحان من أيقظهم والناس نيام، وتبارك الذي غفر وعفا، وستر وكفى وأسبل على الكافة جميع الإنعام، أحمده على نعمه الجسام، وأشكره وأسأله حفظ نعمة الإسلام.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عز من اعتز به فلا يضام، وذل من تكبر عن طاعته ولقي الآثام.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بين الحلال والحرام، وصلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الصديق، الذي هو في الغار خير رفيق، وعلى عمر بن الخطاب، الذي وفق للصواب، وعلى عثمان مصابر البلا، ومن نال الشهادة العظمى من أيدي العدا، وعلى ابن عمه على بن أبي طالب وعلى جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ما غاب في الأفق غارب، وسلم تسليماً.
    إخواني: لقد نزل بكم عشر رمضان الأخيرة فيها الخيرات والأجور الكثيرة فيها الفضائل المشهورة والخصائص العظيمة:
    فمن خصائصها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره.



    ص -100- وفي الصحيحن عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله، وفي المسند عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر شمر وشد المئزر.
    ففي هذا الحديث دليل على فضيلة هذه العشر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيه أكثر مما يجتهد فيه أكثر مما يجتهد في غيره وهذا شامل للاجتهاد في جميع أنواع العبادة من صلاة وقرآن وذكر وصدقة وغيرها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشد مئزره يعني يعتزل نساءه ليتفرغ للصلاة والذكر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحيي ليله بالقيام والقراءة والذكر بقلبه ولسانه وجوارحه لشرف هذه الليالي وطلباً لليلة القدر التي من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدمخ من ذنبه، وظاهر هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم يحي الليل كله في عبادة ربه من الذكر والقراءة والصلاة والاستعداد لذلك والسحور وغيرها، وبهذا يحصل الجمع بينه وبني مافي صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما أعلمه صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح. لأن إحياء الليل الثابت في العشر يكون بالقيام وغيره من أنواع العبادة، والذي نفت إحياء الليل بالقيام فقط. والله أعلم.
    ومما يدل على فضيلة العشر من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله فيه للصلاة والذكر؛ حرصاً على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرة به من العبادة، فإنها فرصة العمر، وغنيمة لمن وفقه الله عز وجل، فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوت ههذ الفرصة الثمينة على نفسه وأهله، فما هي إلا ليال معددة، ربما يدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة، وإنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الفادحة أن ترى كيراً من المسلمين يمضون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم يسهرون معظم الليل في اللهو الباطل، فإذا جاء وقت القيام ناموا عنه وفوتوا على أنفسهم خيراً كثيراً لعلهم لا يدركونه بعد عامهم هذا أبداً، وهذا من تلاعب الشيطان بهم ومكره بهم وصده إياهم عن سبيل الله وإغوائه لهم، قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ





    ص -101- اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} والعاقل لا يتخذ الشيطان ولياً من دون الله مع علمه بعداوته له فإن ذلك مناف للعقل والإيمان، قال الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
    ومن خصائص هذه العشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فيها، والاعتكاف: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل وهو من السنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم واعتكف أصحابه معه وبعده فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قال: "إني أعتكف العشر الأول من رمضان ألتمس هذه الليلة، ثم أعتكف العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر. فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف" "الحديث" رواه مسلم.
    وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده، وفي صحيح البخاري عنها أيضاً قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً.
    وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف عاماً فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين"، رواه أحمد والترمذي وصححه.
    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه، فاستأذنته عائشة فأذن لها فضربت لها خباء، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت فضربت خباء، فلما رأت ذلك زينب أمرت بخباء فضرب لها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأخبية قال: ماهذا ؟، قالوا: بناءُ عائشة وحفصة وزينب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "آلبر أردن بهذا ؟، انزعوها فلا أراها" فنزعت وترك



    ص -102- الاعتكاف في رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال. من البخاري ومسلم في روايات.
    وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أن الاعتكاف مسنون.
    والمقصود بالاعتكاف: انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله في مسجد من مساجده طلباً لفضله وثوابه وإدراك ليلة القدر. ولذلك ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والقراءة والصلاة والعبادة وأن يتجنب مالا يعنيه من حديث الدنيا ولا بأس أن يتحدث قليلاً بحديث مباح مع أهله أو غيرهم لمصلحة، لحديث صفية أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت لأنقلب "أي: لأنصرف إلى بيتي" فقام النبي صلى الله عليه وسلم معي. الحديث. متفق عليه.
    ويحرم على المعتكف الجماع ومقدماته من التقبيل واللمس لشهوة، لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، وأما خروجه من المسجد فإن كان ببعض بدنه فلا بأس به لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف فأغسله وأنا حائض وفي رواية كانت ترجل رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه.
    وإن كان خروجه بجميع بدنه فهو ثلاثة أقسام:
    الأول: الخروج لأمر لا بد منه طبعاً أو شرعاً كقضاء حاجة البول والغائط والوضوء الواجب والغسل الواجب لجنابة أو غيرها والأكل والشرب، فهذا جائز إذا لم يمكن فعله في المسجد، فإن أمكن فعله في المسجد فلا، مثل أن يكون في المسجد حمام يمكنه أن يقضي حاجته فيه وأن يغتسل فيه أو يكون له من يأتيه بالأكل والشرب فلا يخرج حينئذ لعدم الحاجة إليه.
    الثاني: الخروج لأمر طاعة لا تجب عليه كعبادة مريض وشهود جنازة ونحو ذلك فلا يفعله إلا أن يشترط ذلك في ابتداء اعتكافه مثل أن يكون عنده مريض يحب أن يعوده أو يخشى من موته فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجه لذلك فلا بأس به.



    ص -103- الثالث: الخروج لأمر ينافي الاعتاف كالخروج للبيع والشراء وجماع أهله ومباشرتهم ونحو ذلك، فلا يفعله لابشرط ولا بغير شرط، لأنه يناقض الاعتكاف وينافي المقصود منه، ومن خصائص هذه العشر أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر فاعرفوا رحمكم الله لهذه العشر فضلها، ولا تضيعوها فوقتها ثمين وخيرها ظاهر مبين.
    اللهم وفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    ص -104- المجلس الثاني والعشرون: في الاجتهاد في العشر الأواخر وليلة القدر
    الحمد لله عالم السر والجهر، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر، محصي قطرات الماء وهو يجري في النهر، وباعث ظلام الليل بنسخه نور الفجر، موفر الثواب للعابدين ومكمل الأجر، العالم بخائنة الأعين وخافية الصدر، شمل برزقه جميع خلقه فلم يترك النمل في الرمل ولا الفرخ في الوكر، أغنى وأفقر وبحكمته وقوع الغني والفقر، وفضل بعض المخلوقات على بعض حتى أوقات الدهر، ليلة القدر، خير من ألف شهر، أحمده حمداً لا منتهى لعدده، وأشكره شكراً يستجلب المزيد من مدده.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في معتقده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي نبع الماء من بين أصابع يده، صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر صاحبه في رخائه وشدائده، وعلى عمر بن الخطاب كهف الإسلام وعضده، وعلى عثمان جامع كتاب الله وموحده، وعلى علي كافي الحروب وشجعانها بمفرده، وعلى آله وأصحابه المحسن كل منهم في عمله ومقصده، وسلم تسليما.
    إخواني، في هذه العشر المباركة ليلة القدر التي شرفها الله على غيرها ومن على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها أشاد الله بفضلها في كتابه المبين فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} وصفها الله سبحانه بأنها مباركة لكثرة خيرها وبركتها وفضلها.
    ومن بركتها: أن هذا القرآن المبارك أنزل فيها، ووصفها سبحانه بأنه يفرق فيها كل أمر حكيم، يعني: يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة ما هو كائن من أمر الله سبحانه في تلك السنة من الأرزاق والآجال، والخير والشر، وغير ذلك من كل أمر حكيم من أوامر الله



    ص -105- المحكمة المتقنة التي ليس فيها خلل ولا نقص ولا سفه ولا باطل ذلك تقدير العزيز العليم، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} القدر بمعنى الشرف والتعظيم أو بمعنى التقدير والقضاء لأن ليلة القدر شريفة عظيمة يقدر الله فيها ما يكون في السنة ويقضيه من أموره الحكيمة {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يعني في الفضل والشرف وكثرة الثواب والأجر ولذلك كان من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} عباد من عباد الله قائمون بعبادته ليلاً ونهاراً، {عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} يتنزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة، {وَالرُّوح} وهو جبريل عليه السلام، خصه بالذكر لشرفه وفضله، {سَلامٌ هِيَ} يعني أن ليلة القدر ليلة سلام للمؤمنين من كل مخوف لكثرة من يعتق فيها من النار، ويسلم من عذابها: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} يعني: أن ليلة القدر تنتهي بطلوع الفجر لانتهاء عمل الليل به.
    وفي هذه السورة الكريمة فضائل متعددة لليلة القدر:
    الفضيلة الأولى: أن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر، وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
    الفضيلة الثانية: ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}.
    الفضيلة الثالثة: أنها خير من ألف شهر.
    الفضيلة الرابعة: أن الملائكة تتنزل فيها وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة ولارحمة.
    الفضيلة الخامسة: أنها سلام لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل.
    الفضيلة السادسة: أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة.



    [b]
    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:49 am



    ص -106- ومن فضائل ليلة القدر: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلة لاقدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" فقوله: "إيماناً واحتساباً" يعني: إيماناً بالله وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها واحتساباً للأجر وطلب الثواب وهذا حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر.
    وليلة القدر في رمضان؛ لأن الله أنزل القرآن فيها، قد أخبر أن إنزاله في شهر رمضان، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن}، فبهذا تعين أن تكون ليلة القدر في رمضان، وهي موجودة في الأمم وفي هذه الأمة إلى يوم القيامة، لما روى الإمام أحمد والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: يا "رسول الله أخبرني عن ليلة القدر أهي في رمضان أم في غيره ؟، قال: "بل هي في رمضان" قال: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت، أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال: "بل هي إلى يوم القيامة" الحديث.
    لكن فضلها وأجرها يختص والله أعلم بهذه الأمة، كما اختصت هذه الأمة بفضيلة يوم الجمعة وغيرها من الفضائل، ولله الحمد.
    وليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" متفق عليه. وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" رواه البخاري. وهي في السبع الأواخر أقرب، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكم قد تواطأت [يعني: اتفقت] في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر" متفق عليه، ولمسلم عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الأواخر [يعني: ليلة القدرٍ]، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي"، وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين



    ص -107- لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين، رواه مسلم.
    ولا تختص ليلة القدر بليلة معينة في جميع الأعوام بل تنتقل فتكون في عام ليلة سبع وعشرين مثلاً وفي عام آخر ليلة خمس وعشرين تبعاً لمشيئة الله ورحمته، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى" رواه البخاري، قال في فتح الباري: "أرجح أنها في وتر من العشر الأخير وأنها تنتقل" اه.
    وقد أخفى الله سبحانه علمها على العباد رحمة بهم، ليكثر عملهم في طلبها في ترك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء، فيزدادوا قربة من الله وثواباً، وأخفاها اختباراً لهم أيضاً ليتبين بذلك من كان جاداً في طلبها، حريصاً عليها ممن كان كَسِلاً متهاوناً، فإن من حرص على شيء جد في طلبه وهان عليه التعب في سبيل الوصول إليه والظفر به، وربما يظهر الله علمها لبعض العباد بأمارات وعلامات يراها، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم علامتها أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فنزل المطر في تلك الليلة، فسجد في صلاة الصبح في ماء وطين.
    إخواني: ليلة القدر يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب ويرد الجواب، ويكتب للعاملين فيها عظيم الأجر، ليلة القدر خير من ألف شهر، فاجتهدوا رحمكم الله في طلبها فهذا أوان الطلب، واحذروا من الغفلة، ففي الغفلة العطب.

    تولى العمر في سهو وفي لهو وفي خمر

    فيا ضيعة ما أنفقت في الأيام من عمري

    ومالي في الذي ضيعت من عمري من عذر

    فما أغفلنا عن وا جبات الحمد والشكر



    ص -108- أما قد خصنا الله بشهر أيما شهرِ

    بشهر أنزل الرحمـ ـن فيه أشرف الذكرِ

    وهل يشبهه شهرٌ وفيه ليلة القدرِ

    فكم من خبر صح بما فيها من الخيرِ

    روينا عن ثقات أنها تُطلب في الوترِ

    فطوبى لامرئٍ يطلبها في هذه العشرِ

    ففيها تنزل الأملا ك بالأنوار والبرِ

    وقد قال سلام هـ ـي حتى مطلع الفجرِ

    ألا فادخروها أنها من أنفس الذخرِ

    فكم من مُعتَّق فيها من النار ولا يدري

    اللهم اجعلنا ممن صام الشهر، وأدرك ليلة القدر، وفاز بالثواب الجزيل والأجر.
    اللهم اجعلنا من السابقين إلى الخيرات، الهاربين عن المنكرات، الآمنين في الغُرفات مع الذين أنعمت عليهم ووقيتهم السيئات، اللهم

    ص -109- لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
    وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.



    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:51 am



    ص -110- المجلس الثالث والعشرون: في وصف الجنة –جعلنا الله من أهلها-
    الحمد لله مبلِّغ الراجي فوق مأموله، ومعطي السائل زيادة على سؤله المنان علىالتائب بصفحه وقبوله، خلق الإنسان وأنشأ داراً لحلوله، وجعل الدنيا مرحلة لنزوله، فتوطّنها من لم يعرف شرف الأخرى لخموله، فأخذ منها كارهاً قبل بلوغ مأموله، ولم يغنه ما كسبه من مال وولد حتى انهزم في فلوله، أو ما ترى غربان البين تنوح على طلوله، أما الموفّق فعرف غرورها فلم ينخدع بمثوله، وسابق إلى مغفرة من الله وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عارف بالدليل وأصوله.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ما تردد النسيم بين شماله وجنوبه، ودبوره وقبوله، صلى الله عليه، وعلى أبي بكر صاحبه في سفره وحلوله، وعلى عمر حامي الإسلام بسيف لا يخاف من فلوله، وعلى عثمان الصابر على البلاء حين نزوله، وعلى علي الماضي بشجاعته قبل أن يصول بنصوله، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما انتد الدهر بطوله، وسلم تسليماً:
    إخواني: سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}، وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِم}، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقال تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا



    ص -111- قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً إِنَّ الَْبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيتَ نعيماً وملكاً كبيراً}، وقال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}، وقال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}، وقال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}، وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}، وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً}، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}، وقال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}، وقال تعالى {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}، وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فالحسنى هي الجنة لأنه لا دار أحسن منها، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، رزقنا الله ذلك بمنه وكرمه.
    والآيات في وصف الجنة ونعيمها وسرورها وأنسها وحبورها كثيرة جداً.
    وأما الأحاديث: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها قال: "لبنة ذهب ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه" رواه أحمد والترمذي.
    وعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه: أنه خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بِصُرم، وولّت حذّاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يصطبها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما يحضُرنَّكم، ولقد ذكر لنا أن مصراعين من مصاريع الجنة بينهما مسيرة أربعين



    ص -112- سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام". رواه مسلم.
    وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يُسَمَّى: الريان، لا يدخله إلا الصائمون" متفق عليه.
    وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة ؟، فإن الجنة لا خطر لها1، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطّرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبدٍ في دارٍ سليمة،ٍ وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية" قالوا: يا رسول الله نحن المشمِّرون لها، قال: "قولوا: إن شاء الله" فقال القوم: إن شاء الله. رواه ابن ماجه والبيهقي وابن حبان في صحيحه.
    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مئة درجة، ولو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم" رواه أحمد.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مئة درجة، أعدّها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تَفَجَّر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن" رواه البخاري.
    وله عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: "بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
    وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلّى بالليل والناس نيام" أخرجه الطبراني.
    وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم فلا يَرى بعضهم بعضاً"، متفق عليه.
    وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    1 أي: لا مثل لها ولا عديل.



    ص -113- الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل، لا يتغوطون، ولا يبولون، ولا يمتخطون، ولا يبصقون، أمشاطهم الذهب، ومجامرهم الأُلوة، ورشحهم المسك، أخلاقهم على خَلْقِ رجل واحد، على طول أبيهم آدم ستون ذراعاً" وفي رواية: "لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد، يسبحون الله بكرةً وعشياً" وفي رواية: "وأزواجهم الحور العين".
    وله من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون" قالوا: فما بال الطعام ؟، قال: "جُشَاءٌ ورشحٌ كرشح المسك، يُلهمون التسبيح والتحميد كما يُلهمون النَّفَس".
    وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفس محمد بيده إن أحدهم [يعني: أهل الجنة] ليُعطى قوة مئة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة، تكون حاجة أحدهم رشحاً يفيض من جلودهم كرشح المسك فيضمر بطنه" أخرجه أحمد والنسائي بإسناد صحيح.
    وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقاب قوس أحدكم أو موضع قدم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها [يعني: الخمار] خير من الدنيا وما فيها" متفق عليه، واللفظ للبخاري.
    وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم فيقولون لهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً" رواه مسلم.
    وله عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي منادٍ: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً. وذلك قول الله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}".
    وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. واقرأؤا إن



    ص -114- شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}".
    وعن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو ؟، ألم يُثَقِّل موازيننا، ويُبَيِّض وجوهنا، ويُدخلنا الجنة، ويُزحزحنا عن النار ؟، قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقرّ لأعينهم منه" رواه مسلم.
    وله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أن الله يقول لأهل الجنة: أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً".
    اللهم ارزقنا الخلد في جنانك، وأحل علينا فيها رضوانك، وارزقنا لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مضلّة.
    اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.



    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:52 am



    ص -115- المجلس الرابع والعشرون: في أوصاف أهل الجنة جعلنا الله منهم بمنه وكرمه
    الحمد لله الذي كوّن الأشياء وأحكمها خلقاً، وفتق السموات والأرض وكانتا رتقاً، وقسم بحكمته العباد فأسعد وأشقى، وجعل للسعادة أسباباً فسلكها من كان أتقى، ونظر بعين البصيرة إلى العواقب فاختار ما كان أبقى.
    أحمده وما أُقفِي له بالحمد حقاً، وأشكره ولم يزل للشكر مستحقاً.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مالك الرقاب كلها رقاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أكمل البشر خُلُقاً وخَلْقاً، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الصديق، الحائز فضائل الأتباع سبقاً، وعلى عمر العادل فما يحابي خَلْقاً، وعلى عثمان الذي استسلم للشهادة وما توقى، وعلى عليٍّ بائع ما يَفنى ومشتري ما يبقى، وعلى آله وأصحابه الناصرين لدين الله حقاً، وسلَّم تسليما.
    إخواني: سمعتم إلى أوصاف الجنة ونعيمها وما فيها من السرور والفرح والحبور، فوالله إنها لجديرة بأن يعمل لها العاملون ويتنافس فيها المتنافسون، ويُفنِي الإنسان عمره في طلبها زاهداً في الدون.
    فإن سألتم عن العمل لها والطريق الموصل إليها: فقد بينه الله فيما أنزله من وحيه على لسان أشرف خلقه، قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فهذه أوصاف في أهل الجنة.
    الوصف الأول: {المتقين} وهم الذين اتقوا ربهم باتخاذ الوقاية من عذابه بفعل ما أمرهم به؛ طاعة له ورجاء لثوابه، وترك ما نهاهم عنه؛ طاعة له وخوفاً من عقابه.



    ص -116- الوصف الثاني: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} فهم ينفقون ما أمروا بإنفاقه على الوجه المطلوب منهم من الزكاة والصدقات والنفقات على من له حق عليهم والنفقات في الجهاد وغيره من سبل الخير ينفقون ذلك في السراء والضراء لا تحملهم السراء والرخاء على حب المال والشح فيه طمعاً في زيادته ولا تحملهم الشدة والضراء على إمساك المال خوفاً من الحاجة إليه.
    الوصف الثالث: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} وهم الحابسون لغضبهم إذا غضبوا فلا يعتدون ولا يحقدون على غيرهم بسببه،
    الوصف الرابع: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} يعفون عمن ظلمهم واعتدى علهيم، فلا ينتقمون لأنفسهم مع قدرتهم على ذلك. وفي قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} إشارة إلى أن العفو لا يُمْدَح إلا إذا كان من الإحسان، وذلك بأن يقع موقعه ويكون إصلاحاً، فأما العفو الذي تزداد به جريمة المعتدي فليس بمحمود ولا مأجور عليه، قال الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
    الوصف الخامس: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الفاحشة ما يُستفحش من الذنوب وهي الكبائر: كقتل النفس المحرمة بغير حقٍ، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، والزنا والسرقة، ونحوها من الكبائر. وأما ظلم النفس فهو أعم فيشمل الصغائر والكبائر، فهم إذا فعلوا شيئاً من ذلك ذكروا عظمة من عصوه فخافوا منه، وذكروا مغفرته ورحمته فسعوا في أسباب ذلك، فاستغفروا لذنوبهم بطلب سترها والتجاوز عن العقوبة عليها. وفي قوله {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ اللَّهُ} إشارة إلى أنهم لا يطلبون المغفرة من غير الله لأنه لا يغفر الذنوب سواه.
    الوصف السادس: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: لم يستمروا على فعل الذنب وهم يعلمون أنه ذنب، ويعلمون عظمة من عصوه ويعلمون قرب مغفرته، بل يبادرون إلى الإقلاع عنه والتوبة منه، فالإصرار على



    ص -117- الذنوب مع هذا العلم يجعل الصغائر كبائر، ويتدرج بالفاعل إلى أمور خطيرة صعبة.
    وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فهذه الآيات الكريمة جمعت عدة أوصاف من أوصاف أهل الجنة.
    الوصف الأول: {الْمُؤْمِنُونَ} الذين آمنوا بالله وبكل ما يجب الإيمان به من ملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، آمنوا بذلك إيماناً يستلزم القبول والإذعان والانقياد بالقول والعمل.
    الوصف الثاني: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} حاضرة قلوبهم ساكنة جوارحهم يستحضرون أنهم قائمون في صلاتهم بين يدي الله عز وجل ،يخاطبونه بكلامه ويتقرّبون إليه بذكره، ويلجئؤن إليه بدعائه، فهم خاشعون بظواهرهم وبواطنهم.
    الوصف الثالث: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} واللغو: كل ما لا فائدة فيه ولا خير من قول أو فعل. فهم معرضون عنه لقوة عزيمتهم وشدة حزمهم لا يمضون أوقاتهم الثمينة إلا فيما فيه فائدة، فكما حفظوا صلاتهم بالخشوع حفظوا أوقاتهم عن الضياع، وإذا كان من وصفهم الإعراض عن اللغو وهو ما لا فائدة فيه فإعراضهم عما فيه مضرة من باب أولى.
    الوصف الرابع: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} يحتمل أن المراد بالزكاة القسط الواجب دفعه من المال الواجب زكاته، ويحتمل أن المراد بها كل ما تزكو به نفوسهم من قول أو عمل.
    الوصف الخامس: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فهم حافظون لفروجهم عن الزنا واللواط



    ص -118- لما فيهما من معصية الله والانحطاط الخلقي والاجتماعي، ولعل حفظ الفرج يشمل ما هو أعم من ذلك فيشمل حفظه عن النظر واللمس أيضاً، وفي قوله {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} إشارة إلى أن الأصل لوم الإنسان على هذا الفعل إلا على الزوجة والمملوكة لما في ذلك من الحاجة إليه لدفع مقتضى الطبيعة وتحصيل النسل وغيره من المصالح، وفي عموم قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} دليل على تحريم الاستمناء الذي يُسمى: "العادة السرية"، لأنه عملية في غير الزوجات والمملوكات.
    الوصف السادس: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} الأمانة: ما يؤتمن عليه من قول أو فعل أو عين. فمن حدَّثك بسِرٍّ فقد ائتمنك، ومن فعل عندك ما لا يحب الاطلاع عليه فقد ائتمنك، ومن سلّمك شيئاً من ماله لحفظه فقد ائتمنك. والعهد: ما يلتزم به الإنسان لغيره كالنذر لله والعهود الجارية بين الناس. فأهل الجنة قائمون برعاية الأمانات والعهد فيما بينهم وبين الله وفيما بينهم وبين الخلق، ويدخل في ذلك الوفاء بالعقود والشروط المباحة فيها.
    الوصف السابع: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يلازمون على حفظها من الإضاعة والتفريط، وذلك بآدائها في وقتها على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها وواجباتها.
    وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أوصافاً كثيرة في القرآن لأهل الجنة سوى ما نقلناه هنا، ذكر ذلك سبحانه ليتصف به من أراد الوصول إليها.
    وفي الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء كثير.
    فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة" رواه مسلم.
    وله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدراجات ؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة".
    وله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب



    ص -119- الجنة الثمانية يدخل من أيِّها شاء".
    وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً فيمن تابع المؤذن من قلبه دخل الجنة. رواه مسلم.
    وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة" متفق عليه.
    وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة" رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
    وعن ثويان رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الله به الجنة فقال: "عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحَطَّ عنك بها خطيئة" رواه مسلم.
    وعن أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة" رواه مسلم. وهن: أربع قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل صلاة الصبح.
    وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار ؟، قال: "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت" الحديث، رواه أحمد والترمذي وصححه.
    وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة باباً يقال له الرَّيّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم" الحديث، متفق عليه.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" متفق عليه.
    وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن وجبت له الجنة البتة" قيل: يا رسول الله فإن كانتا اثنتين قال: "وإن كانتا اثنتين" قال: فرأى بعض القوم أن لو قال: واحدة لقال واحدة". رواه أحمد.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال: "تقوى الله



    ص -120- وحسن الخلق" رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه.
    وعن عياض بن حمار المجاشعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدّق موفّق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفّف ذو عيال" رواه مسلم في حديث طويل.
    فهذه أيها الإخوان طائفة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تُبَيِّن شيئاً كثيراً من أعمال أهل الجنة لمن أراد الوصول إليها.
    أسأل الله أن ييسّر لنا ولكم سلوكها، ويثبتنا عليها، إنه جواد كريم.
    وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.



    ص -121- المجلس الخامس والعشرون: في وصف النار أعاذنا الله منها
    الحمد لله الحي القيوم، الباقي وغيره لا يدوم، رفع السماء وزينها بالنجوم، وأمسك الأرض بجبال في التخوم، صوّر بقدرته هذه الجسوم، ثم أماتها ومحا الرسوم، ثم ينفخ في الصور فإذا الميّت يقوم، ففريق إلى دار النعيم وفريق إلى نار السموم تفتح أبوابها في وجوههم لكل باب منهم جزء مقسوم، وتُوصدُ عليهم في عمد ممدّدة فيها للهموم والغموم، يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم فما منهم مرحوم.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من للنجاة يروم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي فتح الله بدينه الفرس والروم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ما هطلت الغيوم، وسلّم تسليماً.
    إخواني، لقد حذّرنا الله تعالى في كتابه من النار وأخبرنا عن أنواع، عذابها بما تتفطر منه الأكباد وتتفجر منه القلوب، حذرنا منها وأخبرنا عن أنواع عذابها رحمة بنا لنزداد حذراً وخوفاً، فاسمعوا ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أنواع عذابها لعلكم تذكرون، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون.
    قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، وقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً}، وقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}، وقال تعالى مخاطباً إبليس: {إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}، وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}، وقال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظ}، وقال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ



    ص -122- فَاتَّقُونِ}، وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ}، وقال تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً}، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ}، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وقال تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}، وقال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}، وقال تعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَاب}، وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}، وقال في تلك الشجرة: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ}، وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}، وقال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً}، وقال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، وقال تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}، وقال تعالى: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ



    [b]
    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:57 am



    ص -123- فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَار جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}.
    والآيات في وصف النار وأنواع عذابها الأليم الدائم كثيرة.
    أما الأحاديث: فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُؤتى بالنار يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" رواه مسلم.
    وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم" قالوا: يا رسول الله إنها لكافية. قال: "إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرّها".
    وعنه رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ماهذا ؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفاً [يعني: سبعين سنة] فالآن حين انتهى إلى قعرها" رواه مسلم.
    وقال عتبة بن غزوان رضي الله عنه وهو يخطب: "لقد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً ما يدرك لها قعراً، والله لتملأن، أفعجبتم ؟" رواه مسلم.
    وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم" رواه النسائي والترمذي وابن ماجه.
    وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل، ما يرى أن أحداً أشدّ منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً" رواه مسلم وللبخاري نحوه.
    وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيُصبغ في النار صبغة، ثم يُقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟، فيقول: لا والله يارب. ويُؤتى



    ص -124- بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيُصبغ صبغة في الجنة، فيقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط ؟ هل مر بك من شدة قط ؟، فيقول: لا والله يا رب، ما رأيت بؤساً ولا مَرَّ بي من شدة قط" رواه مسلم. يعني: أن أهل النار ينسون كل نعيم مَرَّ بهم في الدنيا، وأهل الجنة ينسون كل بؤس مَرَّ بهم في الدنيا.
    وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت تفتدي به ؟، قال: فيقول: نعم، قال: فيقول: قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي" رواه أحمد، ورواه البخاري ومسلم بنحوه.
    وروى ابن مردويه عن يعلى بن منية، وهو ابن أمية، ومنية أمه، قال: "ينشئ الله لأهل النار سحابة فإذا أشرفت عليهم ناداهم: يا أهل النار، أيّ شيء تطلبون، وما الذي تسألون ؟، فيذكرون بها سحائب الدنيا والماء الذي كان ينزل عليهم، فيقولون: نسأل يارب الشراب. فيمطرهم أغلالاً تزيد في آلامهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمراً يلهب النار عليهم".
    وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر، ومن مات مدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة" قيل: وما نهر الغوطة ؟، قال: "نهر يجرى من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريحُ فروجهن".
    وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن على الله عهداً لمن شرب المسكرات ليسقيه من طينة الخبال" قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال ؟، قال: "عرق أهل النار أوعصارة أهل النار".
    وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقال لليهود والنصارى: ماذا تبغون ؟، فيقولون: عطشنا ربنا فأسقنا، فيشار إليهم: ألا تردون ؟، فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار" قال الحسن: ما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، حتى انقطعت أعناقهم عطشاً، واحترقت أجوافهم جوعاً، ثم انصرف بهم إلى النار، فيسقون من عين آنية قد آن حرّها واشتد نضجها.
    وقال ابن الجوزي رحمه الله في وصف



    ص -125- النار: "دار قد خُصَّ أهلها بالبعاد، وحرموا لذة المنى والإسعاد، بدلت وضاءة وجوههم بالسواد، وضربوا بمقامع أقوى من الأطواد، عليها ملائكة غلاظ شداد، لو رأيتهم في الحميم يسرحون، وعلىالزمهرير يطرحون، فحزنهم دائم فما يفرحون، مقامهم محتوم فما يبرحون، أبد الآباد، عليها ملائكة غلاظ شداد، توبيخهم أعظم من العذاب، تأسفهم أقوى من المصاب، يبكون على تضييع أوقات الشباب، وكلما جاء البكاء زاد، عليها ملائكة غلاظ شداد، يا حسرتهم لغضب الخالق!، يا محنتهم لعظم البوائق!، يا فضيحتهم بين الخلائق على رؤوس الأشهاد!، أين كسبهم للحطام ؟، أين سعيهم في الآثام ؟، كأنه كان أضغاث أحلام، ثم أحرقت تلك الأجسام، وكلما أحرقت تعاد، عليها ملائكة غلاظ شداد".
    اللهم نجّنا من النار، وأعذنا من دار الخزي والبوار، وأسكنا برحمتك دار المتقين الأبرار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



    ص -126- المجلس السادس والعشرون: في أسباب دخول النار –أعاذنا الله منها-
    الحمد لله القوي المتين، الظاهر المبين، لا يعزب عن سمعه أقل الأنين، ولا يخفى على بصره حركات الجنين، ذلَّ لكبريائه جبابرة السلاطين، وبطل أمام قدرته كيد الكائدين، قضى قضاءه كما شاء على الخاطئين، وسبق اختياره من اختاره من العالمين، فهؤلاء أهل الشمال وهؤلاء أهل اليمين، جرى القدر بذلك قبل عمل العاملين، ولولا هذا التقسيم لبطل جهاد المجاهدين، وما عُرِفَ أهل الإيمان من الكافرين، ولا أهل الشك من أهل اليقين، ولولا هذا التقسيم ما امتلأت النار من المجرمين، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، تلك يا أخي حكمة الله وهو أحكم الحاكمين.
    أحمده سبحانه حمد الشاكرين، وأسأله معونة الصابرين، واستجير به من العذاب المهين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر أول تابع من الرجال على الدين، وعلى عمر القوي في أمر الله فلا يلين، وعلى عثمان زوج ابنتي الرسول ونعم القرين، وعلى عليٍّ بحر العلوم الأنزع البطين، وعلى جميع آل بيت الرسول الطاهرين، وعلى سائر أصحابه الطيبين، وعلى أتباعه في دينه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً.
    إخواني: اعلموا أن لدخول النار أسباباً بيّنها الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ليحذر الناس منها ويجتنبوها، وهذه الأسباب على نوعين:
    النوع الأول: أسباب مكفّرة، تخرج فاعلها من الإيمان إلى الكفر، وتوجب له الخلود في النار.



    ص -127- النوع الثاني: أسباب مفسّقة، تخرج فاعلها من العدالة إلى الفسق، ويستحق بها دخول النار دون الخلود فيها.
    فأما النوع الأول فنذكر منه أصنافاً:
    الصنف الأول: الشرك بالله، بأن يجعل لله شريكاً في الربوبية أو الألوهية أو الصفات.
    فمن اعتقد أن مع الله خالقاً مشاركاً أو منفردًا، أو اعتقد أن مع الله إلهاً يستحق أن يعبد، أو عبد مع الله غيره فصرف شيئاً من أنواع العبادة إليه، أو اعتقد أن لأحد من العلم والقدرة والعظمة ونحوها مثل ما لله عز وجل؛ فقد أشرك بالله شركاً أكبر، واستحق الخلود في النار، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
    الصنف الثاني: الكفر بالله عز وجل، أو بملائكته، أو كتبه، أو رسله، أو اليوم الآخر، أو قضاء الله وقدره.
    فمن أنكر شيئاً من ذلك تكذيباً أو جحداً، أوشك فيه؛ فهو كافر مخلّد في النار، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهينا}، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً يوم تُقَلَّب يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}.
    الصنف الثالث: إنكار فرض شيء من أركان الإسلام الخمسة.
    فمن أنكر فرضية توحيد الله، أو الشهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، أو عمومها لجميع الناس، أو فريضة الصلوات الخمس، أو الزكاة، أو صوم رمضان، أو الحج؛ فهو كافر، لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين.
    وكذلك من أنكر تحريم الشرك، أو قتل النفس التي حرم الله، أو تحريم الزنا، أو اللواط، أوالخمر، أو نحوها مما تحريمه ظاهر صريح في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه مكذب لله ورسوله. لكن إن كان قريب عهد بإسلام فأنكر ذلك جهلاً لم يكفر حتى يُعَلّم فينكر بعد علمه.



    ص -128- الصنف الرابع: الاستهزاء بالله سبحانه، أو بدينه، أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
    قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
    والاستهزاء هو: السخرية، وهو من أعظم الاستهانة بالله ودينه ورسوله، وأعظم الاحتقار والازدراء، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
    الصنف الخامس: سبّ الله تعالى أو دينه أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
    وهو: القدح والعيب، وذكرهم بما يقضي الاستخفاف والانتقاص، كاللعن والتقبيح ونحو ذلك.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من سبّ الله أو رسوله فهو كافر ظاهراً وباطناً، سواء كان يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاد. وقال أصحابنا: "يكفر، سواء كان مازحاً أو جاداً" وهذا هو الصواب المقطوع به. ونقل عن إسحق بن راهويه: أن المسلمين أجمعوا على: أن من سبّ الله، أو سبّ رسوله، أو دفع شيئاً مما أنزل الله فهو كافر، وإن كان مقراً بما أنزل الله" وقال الشيخ أيضاً: "والحكم في سبّ سائر الأنبياء كالحكم في سبّ نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن سبّ نبياً مسمىً باسمه من الأنبياء المعروفين المذكورين في القرآن، أو موصوفاً بالنبوة، بأن يذكر في الحديث أن نبياً فعل أو قال كذا، فيسبّ ذلك الفاعل أو القائل، مع علمه أنه نبي؛ فحكمه كما تقدم" اه.
    وأما سبّ غير الأنبياء: فإن كان الغرض منه سبّ النبي، مثل: أن يسبّ أصحابه، يقصد به سبّ النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المقارن يقتدي بمن قارنه. ومثل: أن يقذف واحدة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا ونحوه؛ فإنه يكفر، لأن ذلك قدح في النبي صلى الله عليه وسلم وسبّ له، قال تعالى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ}.
    الصنف السادس: الحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أنه أقرب إلى الحق وأصلح للخلق.
    فمن حكم بغير ما أنزل الله معتقداً ذلك فهو كافر، لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
    وكذا لو اعتقد أن حكم غير الله خير من حكم الله فهو كافر وإن لم يحكم به، لأنه مكذب لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.



    ص -129- الصنف السابع: النفاق.
    وهو: أن يكون كافراً بقلبه ويظهر للناس أنه مسلم، إما بقوله أو بفعله، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا}.
    وهذا الصنف أعظم مما قبله، ولذلك كانت عقوبة أصحابه أشد، فهم في الدرك الأسفل من النار، وذلك لأن كفرهم جامع بين الكفر والخداع، والاستهزاء بالله وآياته ورسوله، قال الله تعالى عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
    وللنفاق علامات كثيرة:
    منها: الشك فيما أنزل الله وإن كان يظهر للناس أنه مؤمن، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}.
    ومنها: كراهة حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}.
    ومنها: كراهة ظهور الإسلام وانتصار أهله، والفرح بخذلانهم، قال الله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ}، وقال تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}.
    ومنها: طلب الفتنة بين المسلمين والتفريق بينهم، ومحبة ذلك، قال الله



    ص -130- تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}.
    ومنها: محبة أعداء الإسلام وأئمة الكفر، ومدحهم ونشر آرائهم المخالفة للإسلام، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
    ومنها: لمز المؤمنين وعيبهم في عباداتهم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فيعيبون المجتهدين في العبادة بالرياء، ويعيبون العاجزين بالتقصير.
    ومنها: الاستكبار عن دعاء المؤمنين احتقاراً وشكا، قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}.
    ومنها: ثقل الصلاة والتكاسل عنها، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر" الحديث، متفق عليه.
    ومنها: أذية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}.
    فهذه طائفة من علامات المنافقين، ذكرناها للتحذير منها، وتطهير النفس من سلوكها.
    اللهم أعذنا من النفاق، وارزقنا تحقيق الإيمان على الوجه الذي يرضيك عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، يارب العالمين.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 12:58 am

    ص -138- ولايجزئ إخراجها من الثياب والفرش والأواني والأمتعة، وغيرها مما سوى طعام الآدميين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها من الطعام، فلا تتعدّى ما عيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
    ولا يجزئ إخراج قيمة الطعام، لأن ذلك خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه امرنا فهو رد" وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه مسلم، وأصله في الصحيحين. ومعنى "رد": مردود.
    ولأن إخراج القيمة مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم ، حيث كانوا يخرجونها صاعًا من طعام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
    ولأن زكاة الفطر عبادة مفروضة من جنس معين، فلا يجزئ إخراجها من غير الجنس المعين، كما لا يجزئ إخراجها في غير الوقت المعين.
    ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عينها من أجناس مختلفة وأقيامها مختلفة غالباً، فلو كانت القيمة معتبرةً لكان الواجب صاعاً من جنسٍ، وما يقابل قيمته من الأجناس الأخرى.
    ولأن إخراج القيمة يخرج الفِطرة عن كونها شعيرة ظاهرة بين المسلمين إلى كونها صدقة خفيّة، فإن إخراجها صاعاً من طعامٍ يجعلها ظاهرة بين المسلمين، معلومة للصغير والكبير، يشاهدون كيلها وتوزيعها، ويتبادلونها بينهم، بخلاف ما لو كانت دراهم يخرجها الإنسان خفيّة بينه وبين الآخذ.
    وأما مقدار الفطرة: فهو صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يبلغ وزنه بالمثاقيل: أربعمائة وثمانين مثقالاً من البر الجيد. وبالغرامات: كيلوين اثنين وخمسي عُشر كيلو من البر الجيد. وذلك لأن زنة المثقال: أربعة غرامات وربع، فيكون مبلغ أربعمائة وثمانين مثقالاً: ألفي غرام وأربعين غراماً. فإذا أراد أن يعرف الصاع النبوي فليزن كيلوين وأربعين غراماً من البر، ويضعها في إناء يقدرها بحيث تملؤه، ثم يكيل به.
    وأما وقت وجوب الفطرة: فهو غروب الشمس ليلة العيد، فمن كان من أهل الوجوب حينذاك وجبت عليه وإلا فلا.
    وعلى هذا: فإذا مات قبل الغروب ولو بدقائق لم تجب الفطرة، وإن مات بعده ولو بدقائق وجب إخراج فطرته، ولو ولد شخص بعد الغروب ولو بدقائق لم تجب فطرته، لكن يسن إخراجها كما

    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 1:01 am



    ص -139- سبق، وإن ولد قبل الغروب ولو بدقائق وجب إخراج الفطرة عنه.
    وإنما كان وقت وجوبها غروب الشمس من ليلة العيد لأنه الوقت الذي يكون به الفطر من رمضان، وهي مضافة إلى ذلك، فإنه يقال: "زكاة الفطر من رمضان"، فكان مناط الحكم ذلك الوقت.
    وأما زمن دفعها: فله وقتان: وقت فضيلة، ووقت جواز.
    فأما وقت الفضيلة: فهو صباح العيد قبل الصلاة، لما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا نخرج في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعاً من طعام". وفيه أيضاً من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة" ورواه مسلم وغيره.
    وقال ابن عيينة في تفسيره، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: "يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته، فإن الله يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}.
    ولذلك كان من الأفضل: تأخير صلاة العيد يوم الفطر ليتسع الوقت لإخراج الفطرة.
    وأما وقت الجواز: فهو قبل العيد بيوم أو يومين، ففي صحيح البخاري عن نافع قال: "كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إن كان يعطي عن بنيّ، وكان يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين".
    ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخرها عن صلاة العيد بلا عذر لم تقبل منه، لأنه خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".
    أما إن أخّرها لعذر فلا بأس، مثل أن يصادفه العيد في البر ليس عنده مايدفع منه، أو ليس عنده من يدفع إليه. أو يأتي خبر ثبوت العيد مفاجئاً بحيث لا يتمكن من إخراجها قبل الصلاة، أو يكون معتمداً على شخص في إخراجها فينسى أن يخرجها، فلا بأس أن يخرجها ولو بعد العيد، لأنه معذور في ذلك.



    ص -140- والواجب: أن تصل إلى مستحقيها أو وكيله في وقتها قبل الصلاة، فلو نواها لشخص ولم يصادفه ولا وكيله وقت الإخراج، فإنه يدفعها إلى مستحق آخر، ولا يؤخرها عن وقتها.
    وأما مكان دفعها: فتدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه وقت الإخراج، سواء كان محل إقامته أو غيره من بلاد المسلمين، لا سيما إن كان مكاناً فاضلاً كمكة والمدينة، أو كان فقراؤه أشد حاجة. فإن كان في بلد ليس فيه من يدفع إليه، أو كان لا يعرف المستحقين فيه، وكَّل من يدفعها عنه في مكان فيه مستحق.
    والمستحقون لزكاة الفطر: هم الفقراء ومن عليهم ديون لا يستطيعون وفاءها، فيعطون منها بقدر حاجتهم.
    ويجوز توزيع الفطرة على أكثر من فقير، ويجوز دفع عدد من الفطر إلى مسكين واحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدّرالواجب ولم يقدّر من يدفع إليه.
    وعلى هذا: لو جمع جماعة فطرهم في وعاء واحد بعد كيلها، وصاروا يدفعون منه بلا كيل ثان، أجزأهم ذلك، لكن ينبغي إخبار الفقير بأنهم لا يعلمون مقدار ما يدفعون إليه، لئلا يغتر به فيدفعه عن نفسه وهو لا يدري عن كيله.
    ويجوز للفقير إذا أخذ الفطرة من شخص أن يدفعها عن نفسه، أو أحد من عائلته إذا كالها، أو أخبره دافعها أنها كاملة، ووَثِقَ بقوله.
    اللهم وفقنا للقيام بطاعتك على الوجه الذي يرضيك عنا، وزكِّ نفوسنا وأقوالنا وأفعالنا، وطهرنا من سوء العقيدة والقول والعمل، إنك جواد كريم.
    وصلى الله وسلّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين



    ص -141- المجلس التاسع والعشرون: في التوبة
    الحمد لله الذي نصّبَ من كل كائن على وحدانيته برهاناً، وتصرّف في خليقته كما شاء عزاً وسلطاناً، واختار المتقين فوهب لهم أمناً وإيماناً، وعم المذنبين بحلمه ورحمته عفواً وغفراناً، ولم يقطع أرزاق أهل معصيته جوداً وامتناناً، روّح أهل الإخلاص بنسيم قربه، وحذّر يوم الحساب بجسيم كربه، وحفظ السالك نحو رضاه في سربه، وأكرم المؤمن إذ كتب الإيمان في قلبه، حكم في بريته فأمر ونهى، وأقام بمعونته فأضعف ووهّن، وأيقظ بموعظته من غفل وسها، ودعا المذنب إلى التوبة لغفران ذنبه، ربٌ عظيم لا يُشبه الأنام، وغني كريم لا يحتاج إلى الشراب والطعام، الخلق مفتقرون إليه على الدوام، ومضطرون إلى رحمته في الليالي والأيام.
    أحمده حمد عابدٍ لربه، معتذرٍ إليه من تقصيره وذنبه.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلصٍ من قلبه.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى من حزبه، صلى الله عليه وعلى أبي بكر خير صحبه، وعلى عمر الذي لا يسير الشيطان في سربه، وعلى عثمان الشهيد لا في صف حربه، وعلى عليٍّ معينه في حربه، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، وسلّم تسليماً.
    إخواني: اختموا شهر رمضان بالتوبة إلى الله من معاصيه، والإنابة إليه بفعل ما يرضيه، فإن الإنسان لا يخلو من الخطأ والتقصير، وكل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون.
    وقد حث الله في كتابه، وحث النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه، على استغفار الله تعالى، والتوبة إليه، فقال سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ



    ص -142- فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}، وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، والآيات في ذكر التوبة كثيرة.
    وأما الأحاديث:
    فمنها: عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مئة مرة" رواه مسلم.
    وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" رواه البخاري.
    وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم، كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح" رواه مسلم. وإنما يفرح سبحانه بتوبة عبده لمحبته للتوبة والعفو، ورجوع عبده إليه بعد هربه منه.
    وعن أنس وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن لابن آدم واديًا من ذهب أحبّ أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" متفق عليه.
    فالتوبة: هي الرجوع من معصية الله إلى طاعته، لأنه سبحانه هو المعبود حقاً، وحقيقة العبودية: هي التذلل والخضوع للمعبود محبة وتعظيماً، فإذا حصل من العبد شرود عن طاعة ربه، فتوبته: أن يرجع إليه، ويقف ببابه موقف الفقير الذليل الخائف المنكسر بين يديه.
    والتوبة واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها ولا التسويف بها، لأن الله أمر بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأوامر الله ورسوله كلها على الفور والمبادرة، لأن العبد لا يدري ماذا يحصل له بالتأخير، فلعله أن يفاجئه الموت فلا يستطيع التوبة، ولأن الإصرار على المعصية يوجب قسوة القلب، وبعده عن الله عز وجل، وضعف



    ص -143- إيمانه، فإن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان، ولأن الإصرار على المعصية يوجب إلفها والتشبث بها، فإن النفس إذا اعتادت على شيء صَعُبَ عليها فراقه، وحينئذٍ يَعْسُر عليه التخلّص من معصيته، ويفتح عليه الشيطان باب معاصٍ أخرى أكبر وأعظم مما كان عليه، ولذلك قال أهل العلم وأرباب السلوك: "إن المعاصي بريد الكفر، ينتقل الإنسان فيها مرحلة مرحلة حتى يزيغ عن دينه كله" نسأل الله العافية والسلامة.
    والتوبة التي أمر الله بها هي التوبة النصوح التي تشتمل على شرائط التوبة، وهي خمسة:
    الأول: أن تكون خالصة لله عز وجل، بأن يكون الباعث لها حب الله وتعظيمه، ورجاء ثوابه والخوف من عقابه، فلا يريد بها شيئًا من الدنيا، ولا تزلفاً عند مخلوق، فإن أراد هذا لم تقبل توبته، لأنه لم يتب إلى الله، وإنما تاب إلى الغرض الذي قصده.
    الثاني: أن يكون نادماً حازناً على ما سلف من ذنبه، يتمنى أنه لم يحصل منه، لأجل أن يُحْدِثَ له ذلك الندم إنابةً إلى الله، وإنكساراً بين يديه، ومقتاً لنفسه التي أمرته بالسوء، فتكون توبته عن عقيدة وبصيرة.
    الثالث: أن يقلع عن المعصية فوراً. فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال. وإن كانت المعصية بترك واجب فعله في الحال؛ إن كان مما يمكن قضاؤه كالزكاة والحج. فلا تصح التوبة مع الإصرار علىالمعصية، فلو قال: إنه تاب من الربا مثلاً وهو مستمر على التعامل به، لم تصح توبته، ولم تكن توبته هذه إلا نوعَ استهزاء بالله وآياته، لا تزيده من الله إلا بعداً. ولو تاب من ترك الصلاة مع الجماعة وهو مستمر على تركها لم تصح توبته.
    وإذا كانت المعصية فيما يتعلق بحقوق الخلق لم تصح التوبة منها حتى يتخلص من تلك الحقوق، فإذا كانت معصيته بأخذ مال للغير أو جحده لم تصح توبته حتى يؤدي المال إلى صاحبه إن كان حياً، أو إلى ورثته إن كان ميتاً، فإن لم يكن له ورثة أداه إلى بيت المال، وإن كان لا يدري من صاحب المال؛ تَصَدَّق به له، والله سبحانه يعلم به.
    وإن كانت معصيته بغيبة



    ص -144- مسلم وجب أن يستحله من ذلك إن كان قد علم بغيبته إياه، أو خاف أن يعلم بها، وإلا استغفر له وأثنى عليه بصفاته المحمودة في المجلس الذي اغتابه فيه، فإن الحسنات يذهبن السيئات.
    وتصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، لأن الأعمال تتبعض، والإيمان يتفاضل، لكن لا يستحق الوصف المطلق للتوبة، وما يستحقه لتائبون على الإطلاق من الأوصاف الحميدة، والمنازل العالية حتى يتوب إلى الله من جميع الذنوب.
    الشرط الرابع: أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل إلى المعصية، لأن هذه ثمرة التوبة، ودليل صدق صاحبها، فإن قال: إنه تائب وهو عازم أو متردد في فعل المعصية يومًا ما، لم تصح توبته، لأن هذه توبة مؤقتة يَتَحَين فيها صاحبها الفرص المناسبة، ولا تدل على كراهيته للمعصية، وفراره منها إلى طاعة الله عز وجل.
    الشرط الخامس: أن لا تكون بعد انتهاء وقت قبول التوبة، فإن كانت بعد انتهاء وقت القبول لم تقبل.
    وانتهاء وقت القبول نوعان: عام لكل أحد، وخاص لكل شخص بنفسه.
    فأما العام: فهو طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها لم تنفع التوبة، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}، والمراد ببعض الآيات: طلوع الشمس من مغربها، فسّرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
    وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفى الناس العمل" قال ابن كثير: "حسن الإسناد".
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه" رواه مسلم.
    وأما الخاص: فهو عند حضور الأجل، فمتى حضر أجل الإنسان وعاين



    ص -145- الموت لم تنفعه التوبة، ولم تقبل منه، قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن}.
    وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد مالم يُغَرْغِر" يعني: بروحه. رواه أحمد والترمذي وقال: "حديث حسن".
    ومتى صحت التوبة باجتماع شروطها وقُبلت، محا الله بها ذلك الذنب الذي تاب منه وإن عَظُم، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
    وهذه الآية في التائبين المنيبين إلى ربهم، المسلمين له، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.
    فبادروا رحمكم الله أعماركم بالتوبة النصوح إلى ربكم، قبل أن يفجأكم الموت فلا تستطيعون الخلاص.
    اللهم وفقنا للتوبة النصوح التي تمحو بها ما سلف من ذنوبنا، ويسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين في الآخرة والأولى، برحمتك يا أرحم الراحمين.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
    أبو عبيدة الأثري
    أبو عبيدة الأثري
    مدير


    عدد الرسائل : 642
    الرتبة : مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Ytyhyig4
    السٌّمعَة : 1
    نقاط : 109
    تاريخ التسجيل : 23/05/2008

    مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2 Empty رد: مجالس شهر رمضان للعلامة ابن اعثيمين رحمه الله.........2

    مُساهمة من طرف أبو عبيدة الأثري الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 1:03 am



    ص -146- المجلس الثلاثون: في ختام الشهر
    الحمد لله الواسع العظيم، الجواد البر الرحيم، خلق كلّ شيء فقدّره، وأنزل الشرع فيسره، وهو الحكيم العليم، بدأ الخلق وأنهاه، وسَيَّر الفُلْك وأجراه، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
    أحمده على ما أولى وهدى، وأشكره على ما وهب وأعطى.
    وأشهد أنه لا إله إلا هو الملك العلي الأعلى، الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وهو بكل شيء عليم.
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على العالمين، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر أفضل الصديقين، وعلى عمر المعروف بالقوة في الدين، وعلى عثمان المقتول ظلماً بأيدي المجرمين، وعلى عليٍّ أقربهم نسباً على اليقين، وعلى جميع آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً.
    إخواني: إن شهر رمضان قرب رحيله، وأَزِفَ تحويله، وإنه شاهد لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فمن أودعه عملاً صالحاً فليحمد الله على ذلك، وليبشر بحسن الثواب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن أودعه عملاً سيئاً فليتب إلى ربه توبة نصوحاً، فإن الله يتوب على من تاب.
    ولقد شرع الله لكم في ختام شهركم عبادات تزيدكم من الله قرباً، وتزيد في إيمانكم قوة، وفي سجل أعمالكم حسنات. فشرع الله لكم زكاة الفطر، وتقدّم الكلام عليها مفصلاً.
    وشرع لكم: التكبير عند إكمال العدة، من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
    وصفته: أن يقول: "الله أكبر، الله



    ص -147- أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد".
    ويُسَنُّ جهر الرجال به في المساجد والأسواق والبيوت، إعلاناً بتعظيم الله، وإظهاراً لعبادته وشكره. ويَسِرّ به النساء، لأنهن مأمورات بالتستر والإسرار بالصوت.
    ما أجمل حال الناس وهم يكبرون الله تعظيماً وإجلالاً في كل مكان، عند انتهاء شهر صومهم، يملأون الآفاق تكبيرًا وتحميداً وتهليلاً، يرجون رحمة الله، ويخافون عذابه !.
    وشرع الله سبحانه لعباده: صلاة العيد يوم العيد، وهي من تمام ذكر الله عز وجل. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أمته رجالاً ونساءً، وأمره مطاع، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء أن يخرجن إلى صلاة العيد، مع أن البيوت خيرٌ لهن فيما عدا هذه الصلاة. هذا دليل على تأكيدها، قالت أم عطية رضي الله عنها: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيَّض وذوات الخدور. فأما الحيَّض فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: "لتلبسها أختها من جلبابها" متفق عليه. الجلباب: لباس تلتحف فيه المرأة، بمنزلة العباءة.
    ومن السنة: أن يأكل قبل الخروج إلى الصلاة في عيد الفطر تمراتٍ وتراً؛ ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر من ذلك يقطعها على وتر، لقول أنس بن
    مالك رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمراتٍ، ويأكلهن وتراً" رواه أحمد والبخاري.
    ويخرج ماشياً لا راكباً إلا من عذر كعجزٍ وبُعدٍ، لقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً" رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
    ويُسَنّ للرجل أن يتجمّل ويلبس أحسن ثيابه، كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "أخذ عمر جبة من إستبرق أي: حرير تباع في السوق، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابتع هذه، يعني: اشترها تجمّل بها للعيد والوفود. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هذه لباس من لا خلاق له" وإنما قال ذلك لكونها حريراً.
    ولا



    ص -148- يجوز للرجل أن يلبس شيئاً من الحرير أو شيئاً من الذهب، لأنهما حرام على الذكور من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما المرأة فتخرج إلى العيد غير متجمّلة ولا متطيّبة، ولا متبرجة ولا سافرة، لأنها مأمورة بالتستر، منهية عن التبرج بالزينة، وعن التطيّب حال الخروج.
    ويؤدي الصلاة بخشوع وحضور قلب، ويكثر من ذكر الله ودعائه، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، ويتذكر باجتماع الناس في الصلاة على صعيد المسجد اجتماع الناس في المقام الأعظم بين يدي الله عز وجل في صعيد يوم القيامة، ويرى إلى تفاضلهم في هذا المجتمع فيتذكر به التفاضل الأكبر في الآخرة، قال الله تعالى {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}، وليكن فرحاً بنعمة الله عليه بإدراك رمضان، وعمل ما تيسر فيه من الصلاة والصيام، والقراءة والصدقة، وغير ذلك من الطاعات، فإن ذلك خير من الدنيا وما فيها: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، فإن صيام رمضان وقيامه إيماناً واحتساباً من أسباب مغفرة الذنوب، والتخلص من الآثام، فالمؤمن يفرح بإكمال الصوم والقيام، لتخلصه به من الآثام، وضعيف الإيمان يفرح بإكماله لتخلصه من الصيام الذي كان ثقيلاً عليه، ضائقاً به صدره، والفرق بين الفريقين عظيم.
    إخواني: إنه وإن انقضَى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينقضي قبل الموت، قال الله عز جل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات العبد انقطع عمله" فلم يجعل لانقطاع العمل غاية إلا الموت.
    فلئن انقضى صيام شهر رمضان فإن المؤمن لن ينقطع من عبادة الصيام بذلك، فالصيام لا يزال مشروعاً ولله الحمد في العام كله، ففي صحيح مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر".
    وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام



    ص -149- الدهر كله" رواه أحمد ومسلم. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث" وذكر منها: صيام ثلاثة أيام من كل شهر. والأولى أن تكون أيام البيض، وهي: الثالثَ عشَر، والرابعَ عشَر، والخامسَ عشَر، لحديث أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر، إذا صمت من الشهر ثلاثة، فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" رواه أحمد والنسائي.
    وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: "يُكَفِّر السنة الماضية والباقية".
    وسئل عن صيام عاشوراء فقال: "يُكَفِّر السنة الماضية".
    وسئل عن صوم يوم الإثنين فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه، أو أنزل عليّ فيه".
    وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصيام أفضل بعد شهر رمضان ؟ قال: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم".
    وفي الصحيحن عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استكمل شهرًا قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان" وفي لفظ: "كان يصومه إلا قليلاً".
    وعنها رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام الإثنين والخميس" رواه الخمسة إلا أبا داود فهو له من حديث أسامة بن زيد.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" رواه الترمذي.
    ولئن انقضى قيام شهر رمضان فإن القيام لا يزال مشروعاً ولله الحمد، في كل ليلة من ليالي السنة، ثابتاً من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله. ففي صحيح البخاري عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم أو ليصلي حتى ترمَ قدماه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً ؟".
    وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام" رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح".
    وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله



    ص -150- عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
    وصلاة الليل تشمل التطوع كله والوتر، فيصلي مثنى مثنى، فإذا خشيَ الصبح صلّى واحدةً فأوتر ما صلّى، وإن شاء صلّى على صفة ما سبق في المجلس الرابع.
    وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له ؟، من يسألني فأعطيه ؟، من يستغفرني فاغفر له ؟".
    والرواتب التابعة للفرائض اثنتا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر، فعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد مسلم يُصلّي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة"، وفي لفظ: "من صلّى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت فيي الجنة" رواه مسلم.
    والذكر أدبار الصلوات الخمس أمر الله به في كتابه، وحثّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}.
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلّم استغفر ثلاثاً، وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سَبّحَ الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكَبّر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، ثم قال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. غُفِرَت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" رواه مسلم.
    فاجتهدوا إخواني في فعل الطاعات، واجتنبوا الخطايا والسيئات، لتفوزوا بالحياة الطيبة في الدنيا، والأجر الكثير بعد الممات، قال الله عز وجل: {مَنْ



    ص -151- عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
    اللهم ثبتنا على الإيمان والعمل الصالح، وأحينا حياة طيبة، وألحقنا بالصالحين، والحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله وسلّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين
    تفريغ الاخ ابوعبيد ابراهيم الاثري - غفر الله له -


    عدل سابقا من قبل أبو حارثة الأثري الجزائري في الثلاثاء سبتمبر 09, 2008 1:13 am عدل 1 مرات (السبب : مجرد تعديل بارك الله فيكم)

      مواضيع مماثلة

      -

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة مايو 17, 2024 3:02 pm