مجالس شهر رمضان
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
إن الحمدَ
لله نحمدُه ونستعينهُ، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن
سيئاتِ أعمالِنا. من يهدِه اللهُ فلا مضلَ له، ومن يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن
لا إِلـهَ إِلاَّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له،
وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعهم
بإِحسانٍ إلى يومِ الدين وسلَّم
تسليمًا.
أما
بعد:
فهذه مجالسُ لشهرِ رمضانَ المبارك تستوعبُ كثيرًا من
أحكامِ الصيامِ والقيامِ والزكاةِ وما يناسبُ المقامَ في هذا الشهر الفاضل،
رتبتُّها
على مجالسَ يوميةٍ أو ليليةٍ، انتخبتُ كثيرًا من خطبِها من كتاب «قُرّة العيون
المبصرة بتلخيص كتاب التبصرة» مع تعديلِ ما يُحتاجُ إلى تعديلِه، وأكثرت فيها من
ذكر الأحكام والآداب لحاجة الناس إلى ذلك.
وسميته: «مجالس شهر رمضان». وقد سبق
أن طبع عدة مرات، ثم بدا لي أن أعلِّق عليه بصفة مختصرة، وتخريج أحاديثه، وإضافة ما
رأيته محتاجًا إلى إضافة، وحذف ما رأيته مستغنى عنه، وهو يسير لا يخلّ بمقصود
الكتاب، أسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصًا لله، وأن ينفع به إنه جواد
كريم.
المجلس
الأول في فضل شهر
رمضان
الحمدُ
للهِ الذي أنشأَ وبَرَا، وخلقَ الماءَ والثَّرى، وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا، لا
يَغيب عن بصرِه صغيرُ النَّمْل في الليل إِذَا سَرى، ولا يَعْزُبُ عن علمه مثقالُ
ذرةٍ في الأرض ولاَ في السَّماء:
{لَهُ مَا فِي السَّمَـوَتِ
وَمَا فِي الاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ
بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ
هُوَ لَهُ الاَْسْمَآءُ الْحُسْنَى}[طه:
6-8].
خَلَقَ آدَمَ فابتلاه ثم
اجْتَبَاهُ فتاب عليه وهَدَى، وبَعَثَ نُوحاً فصنَع الفُلْكَ بأمر الله وجَرَى،
ونَجَّى الخَليلَ من النَّارِ فصار حَرُّها بَرْدًا وسلامًا عليه فاعتَبِرُوا بِمَا
جَرَى، وآتَى مُوسى تسعَ آياتٍ فَمَا ادَّكَرَ فِرْعَوْنُ وما ارْعَوَى، وأيَّدَ
عيسى بآياتٍ تَبْهَرُ الوَرى، وأنْزلَ الكتابَ على محمد فيه البيَّناتُ
والهُدَى،
أحْمَدُه على نعمه التي لا
تَزَالُ تَتْرَى، وأصلِّي وأسَلِّم على نبيِّه محمدٍ المبْعُوثِ في أُمِ القُرَى،
صلَّى الله عليه وعلى صاحِبِهِ في الْغارِ أبي بكرٍ بلا مِرَا، وعلى عُمَرَ
الْمُلْهَمِ في رأيه فهُو بِنُورِ الله يَرَى، وعلى عثمانَ زوجِ ابْنَتَيْهِ ما كان
حديثاً يُفْتَرَى، وعلى ابن عمِّهِ عليٍّ بَحْرِ العلومِ وأسَدِ الشَّرى، وعلى
بَقيَةِ آله وأصحابِه الذين انتَشَرَ فضلُهُمْ في الوَرَىَ، وسَلَّمَ
تسليمًا.
إخواني:
لقد
أظَلَّنَا شهرٌ كريم، وموسمٌ عظيم، يُعَظِّمُ اللهُ فيه الأجرَ ويُجْزلُ المواهبَ،
ويَفْتَحُ أبوابَ الخيرِ فيه لكلِ راغب، شَهْرُ الخَيْراتِ والبركاتِ، شَهْرُ
المِنَح والْهِبَات،
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى
أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:
185] شهرٌ
مَحْفُوفٌ بالرحمةِ والمغفرة والعتقِ من النارِ، أوَّلُهُ رحمة، وأوْسطُه مغفرةٌ،
وآخِرُه عِتق من النار.
اشْتَهَرت بفضلِهِ الأخبار، وتَوَاتَرَت فيه
الآثار، ففِي الصحِيْحَيْنِ: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله
عليه
وسلّم- قال:
(إِذَا جَاءَ رمضانُ فُتِّحَت أبوابُ الجنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ
النار، وصُفِّدتِ الشَّياطينُ)،
وإنما
تُفْتَّحُ أبوابُ الجنة في هذا الشهرِ لِكَثْرَةِ الأعمالِ الصَالِحَةِ وتَرْغِيباً
للعَاملِينْ، وتُغَلَّقُ أبوابُ النار لقلَّة المعاصِي من أهل الإِيْمان،
وتُصَفَّدُ الشياطينُ فَتُغَلُّ فلا يَخْلُصونُ إلى ما يَخْلُصون إليه في
غيرِه.
وَرَوَى الإِمامُ أحمدُ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ -صلى الله
عليه وسلّم- قال:
(أُعْطِيَتْ أمَّتِي خمسَ
خِصَال في رمضانَ لم تُعْطهُنَّ أمَّةٌ من الأمَم قَبْلَها: خُلُوف فِم الصائِم
أطيبُ عند الله من ريح المسْك، وتستغفرُ لهم الملائكةُ حَتى يُفطروا، ويُزَيِّنُ
الله كلَّ يوم جَنتهُ ويقول: يُوْشِك عبادي الصالحون أن يُلْقُواْ عنهم المؤونة
والأذى
ويصيروا إليك، وتُصفَّد فيه مَرَدةُ الشياطين فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلُصون
إليه في غيرهِ، ويُغْفَرُ لهم في آخر ليلة،
قِيْلَ يا رسول الله أهِيَ ليلةُ
القَدْرِ؟ قال:
(لاَ، ولكنَّ العاملَ إِنما يُوَفَّى أجْرَهُ إذا
قضى عَمَلَه).