محاظرة مفرغة
للشيخ سعد بن ناصر الشثري[/align]
موضوع اليوم "التأمين"، و قبل أن أتكلم عن التأمين، أحب أن أقدم عددا من القواعد الشرعية التى تعتبر بمثابة تمهيد هذا الموضوع، أول هذه القواعد: أن شريعة الإسلام محققة لمصالح الخلق، و أننا إذا أردنا أن نصلح أحوال الناس في دنياهم و أخراهم، فإنما يكون بالتمسك بأحكام هذه الشريعة الطاهرة الصالحة المصلحة لكل زمان ومكان، ودليل هذا قوله سبحانه (و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ، فالرحمة تكون بالتمسك بهذه الشريعة، ويدل على هذا أيضا قوله جل وعلا (اليوم أكملت لكم دينكم، و أتممت عليكم نعمتي، و رضيت لكم الإسلام دينا) ، فإكمال النعمة و إتمام النعمة حصل بهذه الشريعة، شريعة الإسلام، و لذلك فإن الله جل و علا قد وعد أولياءه المؤمنين إذا ساروا على مقتضى شريعة رب العالمين، أن ييسر لهم أمور الدنيا و أمور الآخرة، كما في قوله سبحانه و تعالى (و من يتقي الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب) .
القاعدة الثانية التعلقة بهذا: أن شريعة الإسلام ليست مقتصرة على علاقة الإنسان بربه فقط، أو على عبادات الإنسان أو الأخلاق، بل الشريعة الإسلامية شريعة عامة، ما من شيء في حياة الناس إلا و قد حكمته هذه الشريعة و بينت حكم الله جل و علا فيه، و لذلك جاءت النصوص ببيان أن هذه الشريعة عامة في جميع أحوال الناس، قال نعالى (قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين لا شريك له ، و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين).
القاعدة الأخرى المتعلقة بهذا: أن أوجه المصلحة في أحكام لشريعة قد تظهر لبعض العباد و قد تخفى على آخرين، فبعض الأحكام قد يكون جليا ظاهرا يعرف الناس جميعا وجه مصلحته، و بعضها قد يخفى على الناس، و بعضها قد يخفى على الناس فلا يعرفون وجه كونه مصلحة و لا كيف تتحقق سعادتهم بذلك الحكم.
قاعدة أخرى: أن مرد معاملات الناس في بيعهم وشرائهم و تعاملانهم المالية هو الكتاب و السنة، فإن النصوص قد جاءت ببيان أن الإيمان إنما يكون بتحكيم هذين الأصلين الكتاب و السنة، قال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) و فال سبحانه ( و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) ، و حينئذ فما حصل فيه من خلاف أو ما استجد من حوادث الناس، فإننا نرجع به إلى الكتاب و السنة، لأن الكتاب و السنة احتويا على كل شيء، قال تعالى ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) و قال جل و علا (و إن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر) و قوله هنا "شيء" نكرة في سياق الشرط، فتكون عامة في جميع ما يحتاج إليه الناس سواء في عباداتهم أو معملاتهم أو في أنكحتهم أو خصوماتهم أو أطعمتهم أو غير ذلك، إذا تقرر هذا فإن من الموضوعات المستجدة التى جاءت الشريعة ببيان أحكامها، موضوعات التأمين، و التأمين موضوع مالي و حينئذ فينبغي بنا أن نفهم هذا التأمين قبل أن نعرف حكم الله جل و علا فيه.
ما هو هذا التأمين؟ التأمين عبارة أو هو ان يدفع إنسان أقساطا على مدد متفاوتة بحيث إذا حصل له حادث وجب على المدفوع له الأقساط السابقة أن يدفع مالا لهذا الضي حصل له هذا الحادث، و التأمين ورد على الأمة من قرابة القرنين من الزمان، و حينئذ بحث علماء الشريعة هذا العقد الجديد و بينوا حكمه و اجتمعت المجامع الفقهية و الهيئات العلمية فيه، و إذا نظر الإنسان في أقوال علماء الشريعة وجد أنهم يقسمون التأمين إلى قسمين : تأمين تجاري و تأمين تعاوني.
و المراد بالتأمين التجاري: هو أن يكون هناك شركة أو مؤسسة، بحيث تقوم هذه الشركة بأخذ أقساط من الناس، فإذا حصل للناس حادث ما دفعوا له تعويضا بحسب ما يتفقون عليه. و التأمين التجاري، صدرت القرارات و الفتاوى من المجامع و الهيئات العلمية بمنعه، و أكثر علماء الأمة على تحريمه و عدم جوازه، و لذلك من أوئل من أصدر فيه قرارا بمنعه و تحريمه هيئة كبار العلماء لهذه البلاد، و تبعها عدد من المجامع الفقهية مثل المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي و المجمع الفقهي الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، و السبب في تحريمهم للتأمين التجاري، عدد من الأمور،
- أولها: أن هذا العقد يحتوي على ربا، ووجه احتوائه على ربا أن الإنسان المؤمِن يدفع مالا بأقساط ثم بعد ذلك يأخذ عليه مقابل ذلك المال مالا آخر، و لا يوجد بينهما تساوي، بل هما متفاضلان في الغالب، و الربا هو دفع مال ربوي مقابل مال ربوي على جهة التفاضل أو النسيئة، و هذا متحدد في التأمين، و لا شك أن الربا قد تواترت النصوص الشرعية ببيان تحريمه و أنه محرم، قال تعالى (و أحل الله البيع و حرم الربا) و قال سبحانه (يأيها الذين آمنوا و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) فإذا كان هذا العقد أي عقد التأمبن محتويا على ربا كان محرما،
- و مما استدل به على تحريم التأمين التجاري، أن التأمين التجاري محتوي على قمار، ووجه احتوائه على القمار، أن الإنسان يدفع مالا على جهة اليقين و هو لا يعلم، هل سيحصل مقابل ذلك المال على شيء أو لا. و القمار هو غرم معلوم يقينا – يعني أن يدفع الإنسان مالا على جهة اليقين- مقابل غرم محتمل، فالنتيجة و ما سيؤدى إليه مقابل المال الأول ممكن أن يدفع له و يمكن أن لا يدفع له، و هذا متحقق في التأمين التجاري، فأنت تدفع مالا و لا تعلم هل سيحصل لك حادث تستحق التعويض عليه، أو لا يحصل لك شيء، و حينئذ يكون داخلا في عموم ما ورد النهي عنه من القمار، قال جل و علا (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر و اليسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان) و القمار نوع من أنواع الميسر، إذا تقرر هذا فإن هذا العقد، عقد التأمين التجاري محتوي على هذا الضابط في القمار و الميسر، و حينئذ تكون ممنوعة.
- قالوا: و أيضا عقد التأمين التجاري فيه غرر، لأن الإنسان يدفع مالا و لا يعلم، هل سيحصل على مقابل أو لا يحصل؟ هذا غرر، و الشريعة جاءت لتحريم الغرر في المعاملات، و لذلك روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الغرر. قالوا، و عقد التأمين التجاري فيه أكل لأموال الناس، و ذلك لأن شركة التأمين تأخذ أموال الناس و تمتصها و لا تدفع مقابل ذلك إلا النزر اليسير، و أكل أموال الآخرين بدون مسوغ شرعي من المحرمات كما قال سبحانه و تعالى (و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) و قال جل و علا ( يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) و هذا ليس تجارة، فيكون حينئذ ممنوعا منه.
- قالوا أيضا: التأمين التجاري فيه بيع دين بدين، فإن المؤمِن يدفع مالا على أقساط بعضها مؤجل مقابل تعويض الذي يدفع عند حصول الحادث فيكون حينئذ بيع الدين بالدين، و قد حكى جماعات من أهل العلم تحريم بيع الدين بالدين، و قد ورد في ذلك حديث أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، لكن الحديث ضعيف الإسناد و المعول عليه ورود الإجماع، و هكذا حكى العلماء عددا من الأدلة في تحريم التأمين التجاري.
و القسم الثاني من أنواع التأمين: التأمين التعاوني، و يسميه بعضهم التأمين البدلي، و خلاصة هذا التأمين، أن يجتمع مجموعة من الناس بحيث يدفعون شيئا من أموالهم فإذا حصل على أحدهم ضرر فإنه يأخذ تعويض ذلك الضرر مما جمعوه من الأموال، كأن يجتمع مثلا موضفوا دائرة من الدوائر فيدفعون مائة ريال، كل منهم يدفع مائة ريال في الصندوق، فإذا حصل على أحدهم ضرر أو مشكلة عوض من ذلك الصندوق، و هذا يحصل في أزماننا هذه في الصناديق الخيرية التى تكون للأسر أو لبعض الدوائر الحكومية أو لبعض أهل الأحياء، هذا كله يدخل في التأمين التعاوني و قد صدرت فتاوى المجامع و هيئات كبار العلماء و غيرها بجواز هذا النوع من أنواع التأمين، و استدلوا على ذلك بعدد من النصوص:
- منها قوله جل و علا ( و تعاونوا على البر و التقوى) قالوا و هذا من باب التعاون على البر و التقوى، فيدخل في الآية.
- و استدلوا عليه بقول النبي صلى الله عليه و سلم :" مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد " و بمثل قول النبي صلى الله عليه و سلم :"مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، قالوا و كونهم يشد بعضهم بعضا يدخل فيه ما لو تعاونوا لإيجاد صندوق فيما بينهم بحيث يعوضون من حصل عليه ضرر ما.
- و استدلوا عليه أيضا، بما ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم فال : "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو نفد ما عندهم جمعوا ما كان عندهم من طعام و اقتسموه بينهم، فهم مني و أنا منهم"، و هذا صورة من صور التأمين التعاوني.
- و استدلوا عليه أيضا، بما ورد في عدد من النصوص الترغيب في نكافل المسلمين فيما بينهم، و تعاونهم فيما بينهم على ما يحصل عليهم من ضرر، فالشريعة قد جاءت بتكافل أهل الإسلام فيما بينهم، و لهذا أوجبت الشريعة الزكاة و أوجبت القيام بشأن المضطر و رغبت في تفقد أهل الإسلام بعضهم بعضا في حوائجهم، قالوا و هذا نوع منه.
إذا تقرر هذا، فينبغي أن نعرف ما هو الفرق بين التأمين التجاري و التأمين التعاوني لنميز بين الصورتين، و هذه مسألة مهمة قد يغفل عنها كثير من الناس، ما الفرق بينهما؟ هناك فروق عديدة بين التأمين التجاري و التأمين التعاوني، أول هذه الفروق، في المقصد و النية التى يقصد بها كل منهما، ففي التأمين التجاري يقصدون التجارة بخلاف التأمين التعاوني فهم يقصدون التعاون فيما بينهم.
- الفرق الثاني: أن الأقساط المدفوعة في التأمين التجاري تكون بحسب الإتفاق على وفق ما يتفقون عليه، يجب على كل واحد من المؤمنين أن يدفع فلذلك تجد بعض الناس يتساوون في المميزات التى لديهم لكنهم يختلفون في المبلغ الذي يدفعونه لشركة التأمين، مثال ذلك اثنان عندهم سيارتان متماثلتان من نوع واحد و مديل واحد و السائقان درجة إتقانهما لقيادة السيارة واحدة و مع ذلك يفاوتون بينهما في مقدار الأقساط التى يدفعونها للتأمين، بخلاف التأمين التعاوني فإن الأقساط التى تدفع متساوية ، فإذا وجد اثنان على هيئة واحدة و طريقة واحدة و حصائص متحدة فإنهم يدفعون أقساطا متساوية.
- الفرق الثالث: أن التأمين التعاوني المبلغ الذي يدفع قيه يكون نتيجة حادث حدث على الإنسان على جهة التعويض ، فلا يدفع له إلا ما يعوض الخسارة اللاحقة به، بخلاف التأمين التجاري فإن العوض المدفوع فيه لا يرتبط بالضرر الحاصل على الإنسان بل يكون على حسب الإتفاق، مثال ذلك : لو حصل حادث على سيارة فالتأمين التجاري فإن العوض المدفوع بحسب ما يتفقون عليه قد يتفقون على مبالغ طائلة هائلة في هذه السيارة أو حصول الضرر على هذه السيارة، بخلاف التأمين التعاوني، فإن العوض إنما يكون بمقدار الضرر.
- فرق آخر بينهما: أن التأمين التعاوني لا يحصل الضمان فيه إلا على الضرر بخلاف التأمين التجاري فإنه قد يكون على أخبار سارة أو على أمور ليس فيها أي ضرر ، مثال ذلك: يؤمن تأمينا تجاريا على فوز فريقه الذي يكون يدفع قسطا شهريا، إذا فاز الفريق استحق مقابل ذلك أموالا طائلة بحسب ما يتفقون عليه، هذا يدخل في أنواع التأمين التجاري بخلاف التأمين التعاوني، فإنه لا يستحق فيه العوض إلا مقابل الضرر و لا يتجاوز قيمة الضرر، فإذا كان الضرر الحاصل عليه بقيمة مائة ألف يدفع له مائة ألف فقط.
- فرق آخر من الفروق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني: أن التأمين التجاري ما فاض من الأموال أخذته شركة التأمين و لا يعود إلى المؤمنين، و لا يعود شيء منه البتة إلى من دفع الأقساط بخلاف التأمين التعاوني فإنه تؤخذ منه التعويضات التى دفعت للأشخاص الذين حصل عليهم ضرر و الباقي يدفع أو يعاد إلى أصحاب التأمين، يعاد إلى المؤمنين الذين دفعوا الأقساط.
فإن قال قائل: إذا ما هي فائدة شركات التأمين التعاوني حينئذ؟
فنقول في هذه المسألة: أصلا شركات التأمين التعاوني قائم على تعاون بين طائفة و ليست قائمة على أرباح و فوائد دنيوية على أنه يمكن أن يستفاد في مثل هذه الصور بأن تؤخذ أموال المؤمنين فتستثمر و تجعل في تجارة مأمونة لها عائد يغلب على الظن أنها يستفاد منه ، فحينئذ تكون الفائدة من خلال ذلك العائد الإستثماري على أموال المؤمنين.
- فإن قال قائل: هل يجوز أن نجعل شركة محتوية على مساهمين و على أصحاب أموال تقوم برعاية التأمين التعاوني ؟
للشيخ سعد بن ناصر الشثري[/align]
موضوع اليوم "التأمين"، و قبل أن أتكلم عن التأمين، أحب أن أقدم عددا من القواعد الشرعية التى تعتبر بمثابة تمهيد هذا الموضوع، أول هذه القواعد: أن شريعة الإسلام محققة لمصالح الخلق، و أننا إذا أردنا أن نصلح أحوال الناس في دنياهم و أخراهم، فإنما يكون بالتمسك بأحكام هذه الشريعة الطاهرة الصالحة المصلحة لكل زمان ومكان، ودليل هذا قوله سبحانه (و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ، فالرحمة تكون بالتمسك بهذه الشريعة، ويدل على هذا أيضا قوله جل وعلا (اليوم أكملت لكم دينكم، و أتممت عليكم نعمتي، و رضيت لكم الإسلام دينا) ، فإكمال النعمة و إتمام النعمة حصل بهذه الشريعة، شريعة الإسلام، و لذلك فإن الله جل و علا قد وعد أولياءه المؤمنين إذا ساروا على مقتضى شريعة رب العالمين، أن ييسر لهم أمور الدنيا و أمور الآخرة، كما في قوله سبحانه و تعالى (و من يتقي الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب) .
القاعدة الثانية التعلقة بهذا: أن شريعة الإسلام ليست مقتصرة على علاقة الإنسان بربه فقط، أو على عبادات الإنسان أو الأخلاق، بل الشريعة الإسلامية شريعة عامة، ما من شيء في حياة الناس إلا و قد حكمته هذه الشريعة و بينت حكم الله جل و علا فيه، و لذلك جاءت النصوص ببيان أن هذه الشريعة عامة في جميع أحوال الناس، قال نعالى (قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين لا شريك له ، و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين).
القاعدة الأخرى المتعلقة بهذا: أن أوجه المصلحة في أحكام لشريعة قد تظهر لبعض العباد و قد تخفى على آخرين، فبعض الأحكام قد يكون جليا ظاهرا يعرف الناس جميعا وجه مصلحته، و بعضها قد يخفى على الناس، و بعضها قد يخفى على الناس فلا يعرفون وجه كونه مصلحة و لا كيف تتحقق سعادتهم بذلك الحكم.
قاعدة أخرى: أن مرد معاملات الناس في بيعهم وشرائهم و تعاملانهم المالية هو الكتاب و السنة، فإن النصوص قد جاءت ببيان أن الإيمان إنما يكون بتحكيم هذين الأصلين الكتاب و السنة، قال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) و فال سبحانه ( و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) ، و حينئذ فما حصل فيه من خلاف أو ما استجد من حوادث الناس، فإننا نرجع به إلى الكتاب و السنة، لأن الكتاب و السنة احتويا على كل شيء، قال تعالى ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) و قال جل و علا (و إن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر) و قوله هنا "شيء" نكرة في سياق الشرط، فتكون عامة في جميع ما يحتاج إليه الناس سواء في عباداتهم أو معملاتهم أو في أنكحتهم أو خصوماتهم أو أطعمتهم أو غير ذلك، إذا تقرر هذا فإن من الموضوعات المستجدة التى جاءت الشريعة ببيان أحكامها، موضوعات التأمين، و التأمين موضوع مالي و حينئذ فينبغي بنا أن نفهم هذا التأمين قبل أن نعرف حكم الله جل و علا فيه.
ما هو هذا التأمين؟ التأمين عبارة أو هو ان يدفع إنسان أقساطا على مدد متفاوتة بحيث إذا حصل له حادث وجب على المدفوع له الأقساط السابقة أن يدفع مالا لهذا الضي حصل له هذا الحادث، و التأمين ورد على الأمة من قرابة القرنين من الزمان، و حينئذ بحث علماء الشريعة هذا العقد الجديد و بينوا حكمه و اجتمعت المجامع الفقهية و الهيئات العلمية فيه، و إذا نظر الإنسان في أقوال علماء الشريعة وجد أنهم يقسمون التأمين إلى قسمين : تأمين تجاري و تأمين تعاوني.
و المراد بالتأمين التجاري: هو أن يكون هناك شركة أو مؤسسة، بحيث تقوم هذه الشركة بأخذ أقساط من الناس، فإذا حصل للناس حادث ما دفعوا له تعويضا بحسب ما يتفقون عليه. و التأمين التجاري، صدرت القرارات و الفتاوى من المجامع و الهيئات العلمية بمنعه، و أكثر علماء الأمة على تحريمه و عدم جوازه، و لذلك من أوئل من أصدر فيه قرارا بمنعه و تحريمه هيئة كبار العلماء لهذه البلاد، و تبعها عدد من المجامع الفقهية مثل المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي و المجمع الفقهي الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، و السبب في تحريمهم للتأمين التجاري، عدد من الأمور،
- أولها: أن هذا العقد يحتوي على ربا، ووجه احتوائه على ربا أن الإنسان المؤمِن يدفع مالا بأقساط ثم بعد ذلك يأخذ عليه مقابل ذلك المال مالا آخر، و لا يوجد بينهما تساوي، بل هما متفاضلان في الغالب، و الربا هو دفع مال ربوي مقابل مال ربوي على جهة التفاضل أو النسيئة، و هذا متحدد في التأمين، و لا شك أن الربا قد تواترت النصوص الشرعية ببيان تحريمه و أنه محرم، قال تعالى (و أحل الله البيع و حرم الربا) و قال سبحانه (يأيها الذين آمنوا و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) فإذا كان هذا العقد أي عقد التأمبن محتويا على ربا كان محرما،
- و مما استدل به على تحريم التأمين التجاري، أن التأمين التجاري محتوي على قمار، ووجه احتوائه على القمار، أن الإنسان يدفع مالا على جهة اليقين و هو لا يعلم، هل سيحصل مقابل ذلك المال على شيء أو لا. و القمار هو غرم معلوم يقينا – يعني أن يدفع الإنسان مالا على جهة اليقين- مقابل غرم محتمل، فالنتيجة و ما سيؤدى إليه مقابل المال الأول ممكن أن يدفع له و يمكن أن لا يدفع له، و هذا متحقق في التأمين التجاري، فأنت تدفع مالا و لا تعلم هل سيحصل لك حادث تستحق التعويض عليه، أو لا يحصل لك شيء، و حينئذ يكون داخلا في عموم ما ورد النهي عنه من القمار، قال جل و علا (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر و اليسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان) و القمار نوع من أنواع الميسر، إذا تقرر هذا فإن هذا العقد، عقد التأمين التجاري محتوي على هذا الضابط في القمار و الميسر، و حينئذ تكون ممنوعة.
- قالوا: و أيضا عقد التأمين التجاري فيه غرر، لأن الإنسان يدفع مالا و لا يعلم، هل سيحصل على مقابل أو لا يحصل؟ هذا غرر، و الشريعة جاءت لتحريم الغرر في المعاملات، و لذلك روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الغرر. قالوا، و عقد التأمين التجاري فيه أكل لأموال الناس، و ذلك لأن شركة التأمين تأخذ أموال الناس و تمتصها و لا تدفع مقابل ذلك إلا النزر اليسير، و أكل أموال الآخرين بدون مسوغ شرعي من المحرمات كما قال سبحانه و تعالى (و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) و قال جل و علا ( يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) و هذا ليس تجارة، فيكون حينئذ ممنوعا منه.
- قالوا أيضا: التأمين التجاري فيه بيع دين بدين، فإن المؤمِن يدفع مالا على أقساط بعضها مؤجل مقابل تعويض الذي يدفع عند حصول الحادث فيكون حينئذ بيع الدين بالدين، و قد حكى جماعات من أهل العلم تحريم بيع الدين بالدين، و قد ورد في ذلك حديث أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، لكن الحديث ضعيف الإسناد و المعول عليه ورود الإجماع، و هكذا حكى العلماء عددا من الأدلة في تحريم التأمين التجاري.
و القسم الثاني من أنواع التأمين: التأمين التعاوني، و يسميه بعضهم التأمين البدلي، و خلاصة هذا التأمين، أن يجتمع مجموعة من الناس بحيث يدفعون شيئا من أموالهم فإذا حصل على أحدهم ضرر فإنه يأخذ تعويض ذلك الضرر مما جمعوه من الأموال، كأن يجتمع مثلا موضفوا دائرة من الدوائر فيدفعون مائة ريال، كل منهم يدفع مائة ريال في الصندوق، فإذا حصل على أحدهم ضرر أو مشكلة عوض من ذلك الصندوق، و هذا يحصل في أزماننا هذه في الصناديق الخيرية التى تكون للأسر أو لبعض الدوائر الحكومية أو لبعض أهل الأحياء، هذا كله يدخل في التأمين التعاوني و قد صدرت فتاوى المجامع و هيئات كبار العلماء و غيرها بجواز هذا النوع من أنواع التأمين، و استدلوا على ذلك بعدد من النصوص:
- منها قوله جل و علا ( و تعاونوا على البر و التقوى) قالوا و هذا من باب التعاون على البر و التقوى، فيدخل في الآية.
- و استدلوا عليه بقول النبي صلى الله عليه و سلم :" مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد " و بمثل قول النبي صلى الله عليه و سلم :"مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، قالوا و كونهم يشد بعضهم بعضا يدخل فيه ما لو تعاونوا لإيجاد صندوق فيما بينهم بحيث يعوضون من حصل عليه ضرر ما.
- و استدلوا عليه أيضا، بما ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم فال : "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو نفد ما عندهم جمعوا ما كان عندهم من طعام و اقتسموه بينهم، فهم مني و أنا منهم"، و هذا صورة من صور التأمين التعاوني.
- و استدلوا عليه أيضا، بما ورد في عدد من النصوص الترغيب في نكافل المسلمين فيما بينهم، و تعاونهم فيما بينهم على ما يحصل عليهم من ضرر، فالشريعة قد جاءت بتكافل أهل الإسلام فيما بينهم، و لهذا أوجبت الشريعة الزكاة و أوجبت القيام بشأن المضطر و رغبت في تفقد أهل الإسلام بعضهم بعضا في حوائجهم، قالوا و هذا نوع منه.
إذا تقرر هذا، فينبغي أن نعرف ما هو الفرق بين التأمين التجاري و التأمين التعاوني لنميز بين الصورتين، و هذه مسألة مهمة قد يغفل عنها كثير من الناس، ما الفرق بينهما؟ هناك فروق عديدة بين التأمين التجاري و التأمين التعاوني، أول هذه الفروق، في المقصد و النية التى يقصد بها كل منهما، ففي التأمين التجاري يقصدون التجارة بخلاف التأمين التعاوني فهم يقصدون التعاون فيما بينهم.
- الفرق الثاني: أن الأقساط المدفوعة في التأمين التجاري تكون بحسب الإتفاق على وفق ما يتفقون عليه، يجب على كل واحد من المؤمنين أن يدفع فلذلك تجد بعض الناس يتساوون في المميزات التى لديهم لكنهم يختلفون في المبلغ الذي يدفعونه لشركة التأمين، مثال ذلك اثنان عندهم سيارتان متماثلتان من نوع واحد و مديل واحد و السائقان درجة إتقانهما لقيادة السيارة واحدة و مع ذلك يفاوتون بينهما في مقدار الأقساط التى يدفعونها للتأمين، بخلاف التأمين التعاوني فإن الأقساط التى تدفع متساوية ، فإذا وجد اثنان على هيئة واحدة و طريقة واحدة و حصائص متحدة فإنهم يدفعون أقساطا متساوية.
- الفرق الثالث: أن التأمين التعاوني المبلغ الذي يدفع قيه يكون نتيجة حادث حدث على الإنسان على جهة التعويض ، فلا يدفع له إلا ما يعوض الخسارة اللاحقة به، بخلاف التأمين التجاري فإن العوض المدفوع فيه لا يرتبط بالضرر الحاصل على الإنسان بل يكون على حسب الإتفاق، مثال ذلك : لو حصل حادث على سيارة فالتأمين التجاري فإن العوض المدفوع بحسب ما يتفقون عليه قد يتفقون على مبالغ طائلة هائلة في هذه السيارة أو حصول الضرر على هذه السيارة، بخلاف التأمين التعاوني، فإن العوض إنما يكون بمقدار الضرر.
- فرق آخر بينهما: أن التأمين التعاوني لا يحصل الضمان فيه إلا على الضرر بخلاف التأمين التجاري فإنه قد يكون على أخبار سارة أو على أمور ليس فيها أي ضرر ، مثال ذلك: يؤمن تأمينا تجاريا على فوز فريقه الذي يكون يدفع قسطا شهريا، إذا فاز الفريق استحق مقابل ذلك أموالا طائلة بحسب ما يتفقون عليه، هذا يدخل في أنواع التأمين التجاري بخلاف التأمين التعاوني، فإنه لا يستحق فيه العوض إلا مقابل الضرر و لا يتجاوز قيمة الضرر، فإذا كان الضرر الحاصل عليه بقيمة مائة ألف يدفع له مائة ألف فقط.
- فرق آخر من الفروق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني: أن التأمين التجاري ما فاض من الأموال أخذته شركة التأمين و لا يعود إلى المؤمنين، و لا يعود شيء منه البتة إلى من دفع الأقساط بخلاف التأمين التعاوني فإنه تؤخذ منه التعويضات التى دفعت للأشخاص الذين حصل عليهم ضرر و الباقي يدفع أو يعاد إلى أصحاب التأمين، يعاد إلى المؤمنين الذين دفعوا الأقساط.
فإن قال قائل: إذا ما هي فائدة شركات التأمين التعاوني حينئذ؟
فنقول في هذه المسألة: أصلا شركات التأمين التعاوني قائم على تعاون بين طائفة و ليست قائمة على أرباح و فوائد دنيوية على أنه يمكن أن يستفاد في مثل هذه الصور بأن تؤخذ أموال المؤمنين فتستثمر و تجعل في تجارة مأمونة لها عائد يغلب على الظن أنها يستفاد منه ، فحينئذ تكون الفائدة من خلال ذلك العائد الإستثماري على أموال المؤمنين.
- فإن قال قائل: هل يجوز أن نجعل شركة محتوية على مساهمين و على أصحاب أموال تقوم برعاية التأمين التعاوني ؟