العلامة الإمام محمد بن صالح العثيمين
(1347-1421هـ)
هو سماحة الشيخ الإمام العلامة القدوة فقيه العصر، أبو عبدالله، محمد بن صالح بن سليمان بن عبدالرحمن بن عثمان (الملقب بـ عثيمين) بن عبدالله، من آل وهبة من تميم.
وأمه هي ابنة الشيخ الصالح عبدالرحمن بن سليمان آل دامغ، من أسرة معروفة بتعليم القرآن في عنيزة.
النشأة وطلب العلم:
وُلد رحمه الله في مدينة عنيزة في السابع والعشرين من رمضان سنة 1347، ونشأ في بيئة صالحة، فقرأ القرآن في الكتّاب على جده لأمه الشيخ عبدالرحمن الدامغ إمام مسجد الخريزة، وبعد هذه القراءة يقول المترجَم: "وبعد أن أنهيت هذه القراءة انتقلت إلى مدرسة أخرى، هي أيضاً يدرس فيها ابن عم جدي رحمه الله، واسمه عبدالعزيز بن صالح بن دامغ، يدرّس فيها القرآن، وشيئاً من الأدب، وشيئاً من علم الحساب، وبقيت هناك حتى أدركت منها ما شاء الله، ثم بدا لي أن أقرأ القرآن عن ظهر قلب، فدخلت مدرسة يدرّس فيها علي العبدالله الشحيتان أحد المدرسين في عنيزة، وحفظت القرآن فيها عن ظهر قلب"، وذكر أنه أتمَّ حفظه وعمره أحد عشر عاماً تقريباً.
وحبب الله إليه العلم مبكراً، فالتحق بتوجيه من والده بحلقة الشيخ محمد بن عبدالعزيز المطوع وقد ناهز الحلم، فدرس على يديه المتون المختصرة، مثل منهج السالكين ومختصر الواسطية كلاهما للعلامة ابن سعدي، والآجُرُّومية والألفية، وحفظهما، ويقول عن شيخه: "كان جيداً في علم العربية، أدركتُ منه كثيراً".
ثم ارتقى إلى حلقة علامة عنيزة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -وبينهما قرابة- وعمره 16 أو 17 سنة كما يقول، فلازمه ملازمة تامة، وبرَّز على أقرانه، وأدرك من سبقه، وبه تخرج.
يقول المترجم: "وهو الذي أدركت عليه العلم كثيراً، لأنه رحمه الله له طريقة خاصة في تدريسه، وهو أنه يجمع الطلبة على كتاب واحد، ثم يقوم بشرحه، أي مادة كانت، حتى أحياناً نقرأ عليه في التفسير فيفسر لنا القرآن الكريم، ما يعتمد على كتاب آخر، يفصِّله، ويحلل ألفاظه، ويستنبط ما يستنبط منه من فوائد، درسنا عليه رحمه الله، وكان مركّز دروسنا عليه في فن الفقه وقواعده وأصوله، وقد حصّلنا ولله الحمد عليه شيئاً كثيراً، بالإضافة إلى ذلك كان يدرّسنا في التوحيد، ويدرّسنا في النحو، وبقينا على هذا مدة معه رحمه الله، وفي الحقيقة أن له علي فضلاً كبيراً من الله سبحانه وتعالى، ذكر لي أن والدي رحمه الله وكان في الرياض -أول ما بدأ التطور في الرياض- أحب والدي أن أنضم إليه هناك، ولكن شيخنا رحمه الله عبدالرحمن بن سعدي كتب إليه يقول: دعوا لنا هذا يكون من نصيبنا، هذا الولد يكون من نصيبنا، فجزاه الله عني خيرا".
وقال الشيخ في مكان آخر: "والحقيقة أن انتقال والدي رحمه الله إلى الرياض كشف لي مدى الحب الذي يكنّه لي الشيخ السعدي رحمه الله، إذ أصر في طلب بقائي بجواره في عنيزة للاستزادة من العلم، وكاتب والدي فوافق، فبقيت بجوار الشيخ السعدي".
ثم يواصل الشيخ كلامه الأول قائلا: "بقيت عنده مدة، ثم انقطعتُ عن الدراسة لأنه حصل عند الناس نشاط في الأراضي في عمارتها في الغرس، في مكان يقال له الوادي، وكنا نحن من الذين اشتغلوا في ذلك مدة، ولكن الله سبحانه وتعالى منَّ بفضله فعدنا إلى الدراسة على الشيخ رحمه الله".
قلت: ذكر الشيخ علي الشبل أن هذا الانقطاع دام ثلاث سنوات، وأن عودة المترجَم للعلم كانت بسبب العلامة المربي ابن سعدي، حيث افتقده، فسأل والده عن سبب تخلفه عن الدراسة، فأعلمه بالسبب، فطلب العلامة ابن سعدي من والد المترجم أن يرجعه للحلقة، وكان ذلك ولله الحمد[1].
فكانت استفادته الكبرى من العلامة ابن سعدي، واستفاد كذلك من بعض مشايخ عنيزة، مثل قاضيها الشيخ عبدالرحمن بن عودان في الفقه والفرائض، والشيخ علي بن عبدالله الشحيتان في مبادئ العلوم كما تقدم، والشيخ علي بن حمد الصالحي، وشيخنا عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل، والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام.
وكان إلى ذلك كثير القراءة والمطالعة، ويستفيد ويستعير الكتب من مكتبات عنيزة، مثل مكتبة الجامع، ومكتبة قاضيها الشيخ عبدالله بن مانع رحمه الله، ومكتبة قاضيها شيخنا ابن عقيل، فقد رأيت في مكتبته بعض المطبوعات القديمة كتب على غلافها استعارة المترجَم لها.
وكانت له عناية خاصة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، رحم الله الجميع[2].
وأخبرني شيخنا العلامة عبدالله بن عقيل أنه كان إبان توليه قضاء عنيزة (سنة 1370 وما بعدها) ينفرد كل ليلة مع المترجَم لتحضير دروس شيخهما العلامة ابن سعدي من الغد ومراجعتها، كما أخبرني أن الشيخ المترجَم كان متوقد الذكاء جيد الذهن نجيباً منذ صغره، معروفاً بذلك عند مشايخه وأقرانه.
ومع تقدم الشيخ ابن عثيمين في العلم لم تقف همته عند ما استفاده في بلده، بل كان أفقه أسمى من ذلك، يقول رحمه الله: "وفي عام 1372 للهجرة أشار علينا بعض الإخوان[3] أن نلتحق بالمعاهد العلمية التي فُتحت بالرياض، واستشرت شيخنا عبدالرحمن في ذلك، وأشار عليّ أن أدرس فيها، وافق على ذهابي لأنني سأذهب إلى طلب العلم.. وفعلاً ذهبت إلى هناك، ودرست في المعهد، واتصلت بشيخنا الثاني عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وكان لي عليه دروس في بيته خاصة، وكذلك أيضاً في المسجد، قرأنا عليه في علم الحديث، لأنه كان -وفقه الله وأمد في حياته على خير الإسلام والمسلمين- كان له إلمام كبير في علم الحديث ورغبة أكيدة، وفتح لنا جزاه الله خيراً أبواباً جيدة في هذا الموضوع، فقرأنا عليه من صحيح البخاري، وقرأنا عليه أيضاً في مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولا يحضرني الآن كل ما قرأت عليه[4]، المهم أنني انتفعت بقراءتي عليه من حيث التوجيه والانتقال من العكوف على الكتب الفقهية وتمحيص الأقوال وتلخيصها؛ انتقلت من هذه المرحلة إلى مرحلة الحديث، ولست من الذين يصح أن يُنسبوا إلى علم الحديث، ولكني اتجهت إلى علم الحديث.
في الرياض ما اتصلتُ بغيره، وكان الأثر المباشر من الشيخ نفسه، وأيضاً الإنسان إذا تذوق العلم وعرف فائدته يكون له حافز من نفسه".
ويقول: "كان تأثري بالشيخ عبدالعزيز لعنايته بالحديث، وأخلاقه الفاضلة، وبسط نفسه للناس".
ويقول: "بقيت في الرياض إلى سنة 1373.. أتممنا الدراسة في المعهد لأننا درسنا من السنة الثانية، وفي ذلك الوقت كان نظام القفز، أن الطالب يدرس في الفترة الصيفية دروس السنة المستقبلة، ثم يمتحن فيها في الدور الثاني، ويرتقي إلى السنة الثالثة، فأنا قفزت، قرأت الثانية وتخرجت منها طبيعيا، ثم قفزت، وأدركت الثالثة، ثم أخذت الرابعة سنة 74 بالانتساب، لأن المعهد العلمي كان قد فُتح في عنيزة، وكان محتاجاً إلى المدرسين، فرجعت في عام 74 إلى عنيزة، وابتدأت التدريس في معهد عنيزة من عام 1374، وأخذت السنة الرابعة بعد ذلك بالانتساب، وبقيت هكذا منتسباً؛ حتى أتممت ولله الحمد كلية الشريعة".
قلت: وكان تخرجه سنة 1377 مع الدفعة الثانية من الكلية، وكان يذهب للرياض للاختبار نهاية كل سنة دراسية.
ومن مشايخه في الدراسة بالرياض: العلامة محمد الأمين الشنقيطي، -وكان المترجَم يقول عنه: إنه من جهابذة العلماء وفحولهم-، والشيخ عبدالرزاق العفيفي، والشيخ مناع القطان، وغيرهم.
ويقول الشيخ عبدالله الداود عضو الإفتاء: إن الشيخ عندما قدم الرياض كان مميزاً بالعلم والفهم، وكان يشير إليه الطلاب بالتميّز.
وهكذا نجد أن المترجَم تأصّل علماً وتربية على يد إمامين كبيرين، فتأثر بشيخه ابن سعدي في التوسع والترجيح في الفقه، وتأثر بابن باز في الحديث والتجرد له، وكان أثرهما فيه واضحاً، فجمع بين منهج الفقه ومنهج الحديث.
مرحلة التدريس والإفادة:
بعد التضلُّع من العلوم استقر المترجَم في عنيزة مطلع سنة 1374 مدرّساً في المعهد العلمي، ثم إماماً وخطيباً ومدرساً في الجامع الكبير سنة 1376، فاستفاد منه أهلها.
وذُكر أن الشيخ درّس في الجامع سنتين في حياة الشيخ ابن سعدي[5].
كما درّس في جامع الضليعة بعنيزة مدة، من سنة 1390 إلى 1406 تقريباً.
وكان سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ قد أصدر أمراً بتعيين المترجَم رئيساً لمحكمة الأحساء، ولكنه بذل الجهود والمساعي لإعفائه، فتم له ذلك، ولم يتولَّ القضاء.
وبقي الشيخ ابن عثيمين مدرساً في المعهد العلمي إلى أواخر سنة 1395 حيث فُرِّغ سنتين لأجل إعداد المقررات والمناهج، ثم في نهاية 1397 عيّن مدرساً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم ببريدة[6]، واستمر فيها إلى وفاته، فيكون مجموع ما درّس يزيد على سبع وأربعين سنة، فحصرُ تلامذته متعذر، ولا سيما أنه كان كثير التدريس في الحرمين، ويتنقل بين المناطق لإلقاء الدروس والمحاضرات والمؤتمرات.
وآتاه الله بياناً عجيباً في تدريسه وتقريره وفتاويه، فهو ييسِّر المسائل ويسهلها، ويبيّن الدليل والتعليل والترجيح بأسلوب واضح يفهمه معظم الناس، ولذلك قيل فيه إنه كسر طوق الفقهاء في عباراتهم وطرائقهم، بل كثيراً ما سمعت شيخنا العلامة عبدالله بن عقيل حفظه الله يضرب فيه المثل بأنه أُلين له الفقه، كما سمعت شيخي العلامة عبدالكريم الخضير يثني ثناء عالياً على فقهه.
وكان رحمه الله في تدريس طلبته يعتني بحفظ المتون، ويعد من لا يحفظ أصولها ليس بطالب علم، كما كان يتابع طلبته، ويراجعهم، ويمتحنهم في الدرس، ويبذل لهم الجوائز المحفزة.
أذكر في أحد دروس الشيخ عبدالله الطيار حفظه الله -وهو من أبرز أصحاب المترجَم- في شرح المناسك من العمدة بمكة أنه سأل الحضور سؤالاً فيه صعوبة، وأخرج خمسين ريالاً، وضحك، وقال: كان شيخنا ابن عثيمين يُخرج خمس مئة ريال لمن يجيب، ولكن ذاك ابن عثيمين! فمن يجب يأخذ الخمسين!
وقد تخرّج على يد الشيخ المترجَم أجيال من المشايخ وطلبة العلم البارزين، من القصيم وغيرها، نفع الله بهم.
ونفع الله بدروس الشيخ –المسجَّلة- بعد وفاته نفعاً عظيماً، مع أنها لم تسجَّل بانتظام إلا في آخر حياته؛ فتداولها طلبة العلم في الداخل والخارج؛ لوضوحها مع ما تحتويه من علم جمٍّ، وفُرِّغ كثير منها وطبعت، وانتشرت كذلك عبر الأقراص الحاسوبية وعلى المواقع الإسلامية على الشابكة (الإنترنت)، وعمَّ بها النفع، وبقيت حسنات جارية له إن شاء الله.
وكذلك نفع الله به عبر إذاعة القرآن الكريم، ووصل صيته ونفعه إلى مختلف البلدان، ولا سيما برنامجَي الفتاوى: نور على الدرب، وسؤال على الهاتف -الذي بدأ سنة 1409- وبرنامج أحكام القرآن -بدأ سنة 1408-، مع أحاديث أخرى غير ثابتة في الإذاعة، وشارك في الرائي (التلفاز) ببرنامج دين ودنيا بالصوت دون الصورة.
ناهيك عن فتاوى المترجَم ورسائله المطبوعة في حياته، والتي انتشرت في كل مكان، وكثر طبعها وتوزيعها.
وكان له نشاط في وسائل الإعلام المقروءة والمجلات في الفتاوى والإرشادات والنصح.
وكان المترجَم ممن حباه الله قبولاً واسعاً في العالم الإسلامي، وكانت فتواه مصدر ثقة واطمئنان لخلق كثير، بل إذا عُدّ كبار علماء الأمة عند الخاصة والعامة في وقتنا كانت الأصابع تتجه إلى عدد منهم: سماحة الشيخ ابن باز، والإمام الألباني، والمترجَم -رحمهم الله جميعاً، وجزاهم عن السنّة وأهلها خيراً- بل إن عامة الناس في نجد وما حولها يسألون: ماذا قال ابن باز وابن عثيمين في هذه المسألة؟ وإذا سمعوا فتوى لأحدهما يقنعون بها ولا يكادون يجاوزون لغيرها، قَبولٌ غريب!
وحدثني شيخي الحافظ ثناء الله بن عيسى خان المدني -مفتي أهل الحديث في باكستان الآن- غير مرة في الرياض والكويت أنه كثير المراجعة لفتاوى الشيخين ابن باز وابن عثيمين.
(1347-1421هـ)
هو سماحة الشيخ الإمام العلامة القدوة فقيه العصر، أبو عبدالله، محمد بن صالح بن سليمان بن عبدالرحمن بن عثمان (الملقب بـ عثيمين) بن عبدالله، من آل وهبة من تميم.
وأمه هي ابنة الشيخ الصالح عبدالرحمن بن سليمان آل دامغ، من أسرة معروفة بتعليم القرآن في عنيزة.
النشأة وطلب العلم:
وُلد رحمه الله في مدينة عنيزة في السابع والعشرين من رمضان سنة 1347، ونشأ في بيئة صالحة، فقرأ القرآن في الكتّاب على جده لأمه الشيخ عبدالرحمن الدامغ إمام مسجد الخريزة، وبعد هذه القراءة يقول المترجَم: "وبعد أن أنهيت هذه القراءة انتقلت إلى مدرسة أخرى، هي أيضاً يدرس فيها ابن عم جدي رحمه الله، واسمه عبدالعزيز بن صالح بن دامغ، يدرّس فيها القرآن، وشيئاً من الأدب، وشيئاً من علم الحساب، وبقيت هناك حتى أدركت منها ما شاء الله، ثم بدا لي أن أقرأ القرآن عن ظهر قلب، فدخلت مدرسة يدرّس فيها علي العبدالله الشحيتان أحد المدرسين في عنيزة، وحفظت القرآن فيها عن ظهر قلب"، وذكر أنه أتمَّ حفظه وعمره أحد عشر عاماً تقريباً.
وحبب الله إليه العلم مبكراً، فالتحق بتوجيه من والده بحلقة الشيخ محمد بن عبدالعزيز المطوع وقد ناهز الحلم، فدرس على يديه المتون المختصرة، مثل منهج السالكين ومختصر الواسطية كلاهما للعلامة ابن سعدي، والآجُرُّومية والألفية، وحفظهما، ويقول عن شيخه: "كان جيداً في علم العربية، أدركتُ منه كثيراً".
ثم ارتقى إلى حلقة علامة عنيزة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -وبينهما قرابة- وعمره 16 أو 17 سنة كما يقول، فلازمه ملازمة تامة، وبرَّز على أقرانه، وأدرك من سبقه، وبه تخرج.
يقول المترجم: "وهو الذي أدركت عليه العلم كثيراً، لأنه رحمه الله له طريقة خاصة في تدريسه، وهو أنه يجمع الطلبة على كتاب واحد، ثم يقوم بشرحه، أي مادة كانت، حتى أحياناً نقرأ عليه في التفسير فيفسر لنا القرآن الكريم، ما يعتمد على كتاب آخر، يفصِّله، ويحلل ألفاظه، ويستنبط ما يستنبط منه من فوائد، درسنا عليه رحمه الله، وكان مركّز دروسنا عليه في فن الفقه وقواعده وأصوله، وقد حصّلنا ولله الحمد عليه شيئاً كثيراً، بالإضافة إلى ذلك كان يدرّسنا في التوحيد، ويدرّسنا في النحو، وبقينا على هذا مدة معه رحمه الله، وفي الحقيقة أن له علي فضلاً كبيراً من الله سبحانه وتعالى، ذكر لي أن والدي رحمه الله وكان في الرياض -أول ما بدأ التطور في الرياض- أحب والدي أن أنضم إليه هناك، ولكن شيخنا رحمه الله عبدالرحمن بن سعدي كتب إليه يقول: دعوا لنا هذا يكون من نصيبنا، هذا الولد يكون من نصيبنا، فجزاه الله عني خيرا".
وقال الشيخ في مكان آخر: "والحقيقة أن انتقال والدي رحمه الله إلى الرياض كشف لي مدى الحب الذي يكنّه لي الشيخ السعدي رحمه الله، إذ أصر في طلب بقائي بجواره في عنيزة للاستزادة من العلم، وكاتب والدي فوافق، فبقيت بجوار الشيخ السعدي".
ثم يواصل الشيخ كلامه الأول قائلا: "بقيت عنده مدة، ثم انقطعتُ عن الدراسة لأنه حصل عند الناس نشاط في الأراضي في عمارتها في الغرس، في مكان يقال له الوادي، وكنا نحن من الذين اشتغلوا في ذلك مدة، ولكن الله سبحانه وتعالى منَّ بفضله فعدنا إلى الدراسة على الشيخ رحمه الله".
قلت: ذكر الشيخ علي الشبل أن هذا الانقطاع دام ثلاث سنوات، وأن عودة المترجَم للعلم كانت بسبب العلامة المربي ابن سعدي، حيث افتقده، فسأل والده عن سبب تخلفه عن الدراسة، فأعلمه بالسبب، فطلب العلامة ابن سعدي من والد المترجم أن يرجعه للحلقة، وكان ذلك ولله الحمد[1].
فكانت استفادته الكبرى من العلامة ابن سعدي، واستفاد كذلك من بعض مشايخ عنيزة، مثل قاضيها الشيخ عبدالرحمن بن عودان في الفقه والفرائض، والشيخ علي بن عبدالله الشحيتان في مبادئ العلوم كما تقدم، والشيخ علي بن حمد الصالحي، وشيخنا عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل، والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام.
وكان إلى ذلك كثير القراءة والمطالعة، ويستفيد ويستعير الكتب من مكتبات عنيزة، مثل مكتبة الجامع، ومكتبة قاضيها الشيخ عبدالله بن مانع رحمه الله، ومكتبة قاضيها شيخنا ابن عقيل، فقد رأيت في مكتبته بعض المطبوعات القديمة كتب على غلافها استعارة المترجَم لها.
وكانت له عناية خاصة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، رحم الله الجميع[2].
وأخبرني شيخنا العلامة عبدالله بن عقيل أنه كان إبان توليه قضاء عنيزة (سنة 1370 وما بعدها) ينفرد كل ليلة مع المترجَم لتحضير دروس شيخهما العلامة ابن سعدي من الغد ومراجعتها، كما أخبرني أن الشيخ المترجَم كان متوقد الذكاء جيد الذهن نجيباً منذ صغره، معروفاً بذلك عند مشايخه وأقرانه.
ومع تقدم الشيخ ابن عثيمين في العلم لم تقف همته عند ما استفاده في بلده، بل كان أفقه أسمى من ذلك، يقول رحمه الله: "وفي عام 1372 للهجرة أشار علينا بعض الإخوان[3] أن نلتحق بالمعاهد العلمية التي فُتحت بالرياض، واستشرت شيخنا عبدالرحمن في ذلك، وأشار عليّ أن أدرس فيها، وافق على ذهابي لأنني سأذهب إلى طلب العلم.. وفعلاً ذهبت إلى هناك، ودرست في المعهد، واتصلت بشيخنا الثاني عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وكان لي عليه دروس في بيته خاصة، وكذلك أيضاً في المسجد، قرأنا عليه في علم الحديث، لأنه كان -وفقه الله وأمد في حياته على خير الإسلام والمسلمين- كان له إلمام كبير في علم الحديث ورغبة أكيدة، وفتح لنا جزاه الله خيراً أبواباً جيدة في هذا الموضوع، فقرأنا عليه من صحيح البخاري، وقرأنا عليه أيضاً في مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولا يحضرني الآن كل ما قرأت عليه[4]، المهم أنني انتفعت بقراءتي عليه من حيث التوجيه والانتقال من العكوف على الكتب الفقهية وتمحيص الأقوال وتلخيصها؛ انتقلت من هذه المرحلة إلى مرحلة الحديث، ولست من الذين يصح أن يُنسبوا إلى علم الحديث، ولكني اتجهت إلى علم الحديث.
في الرياض ما اتصلتُ بغيره، وكان الأثر المباشر من الشيخ نفسه، وأيضاً الإنسان إذا تذوق العلم وعرف فائدته يكون له حافز من نفسه".
ويقول: "كان تأثري بالشيخ عبدالعزيز لعنايته بالحديث، وأخلاقه الفاضلة، وبسط نفسه للناس".
ويقول: "بقيت في الرياض إلى سنة 1373.. أتممنا الدراسة في المعهد لأننا درسنا من السنة الثانية، وفي ذلك الوقت كان نظام القفز، أن الطالب يدرس في الفترة الصيفية دروس السنة المستقبلة، ثم يمتحن فيها في الدور الثاني، ويرتقي إلى السنة الثالثة، فأنا قفزت، قرأت الثانية وتخرجت منها طبيعيا، ثم قفزت، وأدركت الثالثة، ثم أخذت الرابعة سنة 74 بالانتساب، لأن المعهد العلمي كان قد فُتح في عنيزة، وكان محتاجاً إلى المدرسين، فرجعت في عام 74 إلى عنيزة، وابتدأت التدريس في معهد عنيزة من عام 1374، وأخذت السنة الرابعة بعد ذلك بالانتساب، وبقيت هكذا منتسباً؛ حتى أتممت ولله الحمد كلية الشريعة".
قلت: وكان تخرجه سنة 1377 مع الدفعة الثانية من الكلية، وكان يذهب للرياض للاختبار نهاية كل سنة دراسية.
ومن مشايخه في الدراسة بالرياض: العلامة محمد الأمين الشنقيطي، -وكان المترجَم يقول عنه: إنه من جهابذة العلماء وفحولهم-، والشيخ عبدالرزاق العفيفي، والشيخ مناع القطان، وغيرهم.
ويقول الشيخ عبدالله الداود عضو الإفتاء: إن الشيخ عندما قدم الرياض كان مميزاً بالعلم والفهم، وكان يشير إليه الطلاب بالتميّز.
وهكذا نجد أن المترجَم تأصّل علماً وتربية على يد إمامين كبيرين، فتأثر بشيخه ابن سعدي في التوسع والترجيح في الفقه، وتأثر بابن باز في الحديث والتجرد له، وكان أثرهما فيه واضحاً، فجمع بين منهج الفقه ومنهج الحديث.
مرحلة التدريس والإفادة:
بعد التضلُّع من العلوم استقر المترجَم في عنيزة مطلع سنة 1374 مدرّساً في المعهد العلمي، ثم إماماً وخطيباً ومدرساً في الجامع الكبير سنة 1376، فاستفاد منه أهلها.
وذُكر أن الشيخ درّس في الجامع سنتين في حياة الشيخ ابن سعدي[5].
كما درّس في جامع الضليعة بعنيزة مدة، من سنة 1390 إلى 1406 تقريباً.
وكان سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ قد أصدر أمراً بتعيين المترجَم رئيساً لمحكمة الأحساء، ولكنه بذل الجهود والمساعي لإعفائه، فتم له ذلك، ولم يتولَّ القضاء.
وبقي الشيخ ابن عثيمين مدرساً في المعهد العلمي إلى أواخر سنة 1395 حيث فُرِّغ سنتين لأجل إعداد المقررات والمناهج، ثم في نهاية 1397 عيّن مدرساً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم ببريدة[6]، واستمر فيها إلى وفاته، فيكون مجموع ما درّس يزيد على سبع وأربعين سنة، فحصرُ تلامذته متعذر، ولا سيما أنه كان كثير التدريس في الحرمين، ويتنقل بين المناطق لإلقاء الدروس والمحاضرات والمؤتمرات.
وآتاه الله بياناً عجيباً في تدريسه وتقريره وفتاويه، فهو ييسِّر المسائل ويسهلها، ويبيّن الدليل والتعليل والترجيح بأسلوب واضح يفهمه معظم الناس، ولذلك قيل فيه إنه كسر طوق الفقهاء في عباراتهم وطرائقهم، بل كثيراً ما سمعت شيخنا العلامة عبدالله بن عقيل حفظه الله يضرب فيه المثل بأنه أُلين له الفقه، كما سمعت شيخي العلامة عبدالكريم الخضير يثني ثناء عالياً على فقهه.
وكان رحمه الله في تدريس طلبته يعتني بحفظ المتون، ويعد من لا يحفظ أصولها ليس بطالب علم، كما كان يتابع طلبته، ويراجعهم، ويمتحنهم في الدرس، ويبذل لهم الجوائز المحفزة.
أذكر في أحد دروس الشيخ عبدالله الطيار حفظه الله -وهو من أبرز أصحاب المترجَم- في شرح المناسك من العمدة بمكة أنه سأل الحضور سؤالاً فيه صعوبة، وأخرج خمسين ريالاً، وضحك، وقال: كان شيخنا ابن عثيمين يُخرج خمس مئة ريال لمن يجيب، ولكن ذاك ابن عثيمين! فمن يجب يأخذ الخمسين!
وقد تخرّج على يد الشيخ المترجَم أجيال من المشايخ وطلبة العلم البارزين، من القصيم وغيرها، نفع الله بهم.
ونفع الله بدروس الشيخ –المسجَّلة- بعد وفاته نفعاً عظيماً، مع أنها لم تسجَّل بانتظام إلا في آخر حياته؛ فتداولها طلبة العلم في الداخل والخارج؛ لوضوحها مع ما تحتويه من علم جمٍّ، وفُرِّغ كثير منها وطبعت، وانتشرت كذلك عبر الأقراص الحاسوبية وعلى المواقع الإسلامية على الشابكة (الإنترنت)، وعمَّ بها النفع، وبقيت حسنات جارية له إن شاء الله.
وكذلك نفع الله به عبر إذاعة القرآن الكريم، ووصل صيته ونفعه إلى مختلف البلدان، ولا سيما برنامجَي الفتاوى: نور على الدرب، وسؤال على الهاتف -الذي بدأ سنة 1409- وبرنامج أحكام القرآن -بدأ سنة 1408-، مع أحاديث أخرى غير ثابتة في الإذاعة، وشارك في الرائي (التلفاز) ببرنامج دين ودنيا بالصوت دون الصورة.
ناهيك عن فتاوى المترجَم ورسائله المطبوعة في حياته، والتي انتشرت في كل مكان، وكثر طبعها وتوزيعها.
وكان له نشاط في وسائل الإعلام المقروءة والمجلات في الفتاوى والإرشادات والنصح.
وكان المترجَم ممن حباه الله قبولاً واسعاً في العالم الإسلامي، وكانت فتواه مصدر ثقة واطمئنان لخلق كثير، بل إذا عُدّ كبار علماء الأمة عند الخاصة والعامة في وقتنا كانت الأصابع تتجه إلى عدد منهم: سماحة الشيخ ابن باز، والإمام الألباني، والمترجَم -رحمهم الله جميعاً، وجزاهم عن السنّة وأهلها خيراً- بل إن عامة الناس في نجد وما حولها يسألون: ماذا قال ابن باز وابن عثيمين في هذه المسألة؟ وإذا سمعوا فتوى لأحدهما يقنعون بها ولا يكادون يجاوزون لغيرها، قَبولٌ غريب!
وحدثني شيخي الحافظ ثناء الله بن عيسى خان المدني -مفتي أهل الحديث في باكستان الآن- غير مرة في الرياض والكويت أنه كثير المراجعة لفتاوى الشيخين ابن باز وابن عثيمين.